إنه مصنع «فوكسكون» في مقاطعة «شانغدو» جنوب غربي الصين. هنا سواعد رخيصة، على رغم كفاءتها العالية، تعمل بدأب، كأنها نمل لا يكل من الحركة. لا داعي للسؤال عن الشروط الإنسانية للعمل، إنها أكثر قسوة من أن توصف بالإنسانية، على رغم أنها على أرض يحكمها حزب شيوعي يفترض أن العمال هم علّة وجوده وسلطته! وتكتمل المطحنة اليومية لهؤلاء الصينيين بفضل العولمة المنفلتة. لقاء لا يخلو من الغرائبية بين شيوعية ورثة ماو تسي تونغ وأنسال آدم سميث. الدليل؟ قبل شهور قليلة، دوى إنفجار فقتل 4 عمال وجرح 18 شخصاً. إنه الشق الدموي الأكثر بروزاً من الثمن الإنساني المؤلم لإنتاج جهاز «آي باد». بعد هذا الإنفجار بأسابيع، حققت «آي باد» إنجازاً تاريخياً ضخماً، بأن وصلت قيمتها في السوق الى نصف تريليون دولار. يساوي هذا الرقم الناتج القومي الخام لدولة من وزن السويد أو السعودية أو بلجيكا. هنّأ السوق «آبل» على إنجازها الذي لم تسبقه إليها سوى نخبة من عمالقة الشركات، مثل «مايكروسوفت» و «سيسكوسيستمز» و «جنرال إلكتريك». وتميّزت «آبل» بأنها حقّقت إنجازها في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تمسك بخناق الإقتصاد الأميركي، ومن ورائه اقتصادات الدول كافة. لقد ضجّت وسائل الإعلام بهذا الإنجاز الضخم الذي وصل عطره الى جدث الراحل ستيف جوبز. وعلى الضفة الأخرى من المحيط الهادئ، يستمر عمال مصنع «فوكسكون» في العمل بصمت لا تقطعهم سوى دمدمتهم المتقطعة من ظروف عمل غير إنسانية في هذا المصنع. لقد أشّر الإنفجار الى صحة ما ردّده المدافعون عن حقوق عُمال هذا المصنع من تدني الوقاية من الحوادث فيه، إلى حدّ يهدد حياة العاملين. ولا تتراكم ساعات العمل الإضافية باطراد، إلى حدّ أن بعض العمال يشتغل على مدار الإسبوع، مع العيش في مهاجع ضيّقة ومُكتظة. ويشير ناشطون إلى أن عمال «آبل» في الصين ليسوا كلهم ضمن السن القانونية للعمل، إضافة الى أن الشركة تتخلّص من نفاياتها الصناعية (التي تحتوي مواد سمّية ثقيلة مثل الزئبق والكاديوم والرصاص تتلبث في التربة والمياه لآجال طويلة)، بطريقة غير سليمة. وأسوأ من هذه الأمور، هو إحتقار صحة العمّال. «تُكدّس «آبل» الأرباح بينما عمالها الصينيون يكدحون». بهذا العنوان، صدّرت صحيفة «نيويورك تايمز» تغطيتها عن مصنع إنتاج «آي باد» في الصين. وترجمت صحيفة «فيغارو» الفرنسية المقال عينه. كما فتحت «نيويورك تايمز» نقاشاً مع قرّائها عن هذا المقال عبر صفحة لها على «فايسبوك» مُخصّصة للإقتصاد الرقمي. في بلاد العم سام، يروج كثيراً أن العولمة أضرّت بالأميركيين لأنها سحبت وظائف من الولاياتالمتحدة الى دول مثل الصين والهند والبرازيل وفيتنام وتايوان وغيرها. لكن الكلام يخفت كثيراً عند الحديث عن الشروط التي يعمل بها أبناء تلك الدول في مصانع الشركات الأميركية داخل هذه البلاد. يمكن القول إنه أمر ليس من شأن هذه الشركات. لكن، أليست ظروف العمل التي تسترخص الإنسان، هي التي جذبت تلك الشركات أصلاً لتعمل في هذه البلدان؟ أليست «ليونة» شروط العمل والعمال، وهو أمر يترجم نفسه فوراً على هيئة خفض كبير في تكاليف الإنتاج، هي من الشروط التي تعمل الشركات بإصرار على فرضها في هذه البلدان، بل تمارس ضغوطاً ضخمة لفرضها عبر مؤسسات مؤثرة مثل «صندوق النقد الدولي» و «منظمة التجارة الدولية»؟ ليست «آبل» وحدها التي تستفيد من تجاوز الشروط الإنسانية للعمل في الصين، بل تشاركها شركات عملاقة في الصناعة الإلكترونية مثل «آي بي أم» و «ديل» و «آتش بي» و «لينوفو» و «موتورولا» و «نوكيا» و «سوني» و «توشيبا» وغيرها. وتعمل شركة «فوكسون تكنولوجيز» مع هذه الشركات وغيرها. وتعتبر المُصدّر الأول للأدوات الإلكترونية في الصين. وتشغّل 1.2 مليون شخص، يتولون تصنيع 40 في المئة من الأدوات الإلكترونية التي تتداولها أيدي قاطني المعمورة. قبل الإنفجار بسنتين، أجبر أحد المقاولين المتعاقدين مع «آبل»، عمّالها على استخدام مادة كيماوية سامة لتنظيف شاشات «آي فون»، فلحقت ب 137 عاملاً إصابات متنوّعة. وفي السنة الماضية، حدث إنفجار في أحد مصانع إنتاج هواتف «آي فون» في الصين، مودياً بحياة أربعة أشخاص، وجرح 77 شخصاً. ولم تحرّك الشركة ساكناً. ماذا يقول المغرمون بأجهزة «آي فون» و «آي باد» اللامعة، إذا عرفوا ان «آبل» تعلّق على جدران مصنعها في الصين لوحات تحمل إنذاراً إستفزازياً (بل لا يخلو من الإبتزاز) لقرابة 120 ألف عامل، يقول «إعمل بكد اليوم، وإلا فابحث عن عملٍ آخر غداً»؟