لا يمكن إنكار الأثر الإيجابي واسع النطاق الذي أحدثه خطاب الرئيس باراك أوباما في القاهرة، لكن هذا لا يمنع رؤية حجم الوهم الذي صنعه الخطاب في أذهان البعض ممن لا يعرفون دقائق السياسة الأميركية وكيف تصنع، وحدود قوة الرئيس، ومؤسسة الرئاسة، ومراكز صناعة الرأي العام الأميركي كما القرار... واستطراداً تشابكات المصالح الأميركية في المنطقة والعالم، وكبداية نعيد تأكيد قوة الصلة والتحالف الذي يربط الولاياتالمتحدة الأميركية بإسرائيل، هذه الصلة التي لا يمكن لأي إدارة أميركية، مهما بلغ نفوذ رئيسها وقدرته وغالبية حزبه على التضحية بها أو كسرها، على حد تعبير أوباما نفسه في خطابه المذكور. إن حديثنا عن الأوهام التي زرعها الخطاب في عقول البعض لا تعني أن كل ما قاله أوباما هو كلام علاقات عامة ولتحسين سمعة بلاده فقط، بل هناك حديث يحسب عليه وجدي للغاية، ولا يمكن أن يساق على عواهنه من دون التزام من قائله، فهذا أمر لم يعد مقبولاً في السياسة الدولية، وسياسة الضحك على الذقون لا يمكنها أن تمر ويتقبلها المجتمع الدولي ببساطة، ولذلك يتوجب أن نبحث وندقق في الجوانب التي نعرف أنه يستطيع أن يخطو باتجاه تطبيقها على إسرائيل، وتلك التي لا يمكنه ذلك ولا تريد بلاده تطبيقها في كل الأحوال. إن اختلاف لغة خطاب أوباما عن سلفه بوش صاحب المواقف العنجهية والحرب الاستباقية قد مثل في نظر الناس أولى الايجابيات اللافتة، فهنا رئيس يتحرك من موقع القادر ويمكنه أن يفعل ما قام به سلفه الأرعن، لكنه يستخدم هذه القدرة في مد يد التعاون مع الآخرين ومنح الفرص دون أن يعني ذلك أنه غير قادر على تقطيب حاجبيه في الوقت المناسب حفاظاً على مصالح بلده. أميركا تعيش أزمة حادة سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي بمخلفات غاية في السوء تركها جورج بوش الابن قبل مغادرته البيت الأبيض، وتقول تجربة السنوات الماضية إن سياسة المحافظين الجدد العدوانية والمعتمدة على القوة العسكرية لم تنجح في معالجة أي من المشكلات التي واجهتها بلاده منذ هجمات 11 من أيلول (سبتمبر) عام 2000، ومن هنا كان على أوباما أن يختط طريقاً جديداً لا يختلف من حيث الجوهر عن طريق سلفه، لكنه يخالفه في أسلوب تحقيق مصالح الولاياتالمتحدة التي كان خطابه في القاهرة أصدق تعبير عنها، لقد خدمت بلاغة الرجل وحنكته اللغوية وثقافته الواسعة ما رمى إليه في مجمل ما طرحه، حتى أن المرء لم يعد يستطيع بسهولة التفريق بين الكلام المرتبط بالواقع ولمعالجته، وذلك الذي يقال على سبيل العلاقات العامة وتحسين الصورة وإراحة جمهور المستمعين. إن استبدال أسلوب الحرب الاستباقية والضغط والتهديد بأسلوب الاحتواء والاستيعاب يمثل جوهر الشكل الجديد للإدارة الأميركية الراهنة، لكن هذا الأسلوب ليس مفتوحاً على الوقت، ولا يمكن أن يؤبد إن لم يحقق المصالح والرؤية الأميركية. وعلى ما تقدم فقد طرح الرئيس الأميركي عنوان الدولتين لحل المسألة الفلسطينية، وهو كما نعلم طرح بوش منذ سبع سنوات بإضافة نكهة مختلفة هذه المرة تتعلق بأن الدولتين في نظر أوباما تستهدف بشكل جدي حل القضية الفلسطينية، ولا ترى مناصاً من عمل كل الترتيبات اللازمة للبدء في التنفيذ خلال فترة زمنية محدودة، لكن من دون أجندات وتواريخ. وارتباطاً بذلك كان كلامه عن وقف الاستيطان بشكل كامل، الأمر الذي لا شك في جديته، غير ان السؤال يبرز هنا: وماذا بقي من أرض تبنى عليها المستوطنات وكل القدس العربية ما عادت مترابطة، ولا يوجد أي إمكان لاعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية، اللهم إلا إذا تم نزع وتفكيك آلاف الوحدات السكنية التي تم زرعها منذ العام 1967، الأمر الذي لن تطالب به أميركا ولا يمكن أن تقبله إسرائيل في إطار الحل النهائي. إذاً الدولة الفلسطينية بمواصفات مقبولة، وتشكل حامياً أمنياً لحدود الدولة العبرية، التي يعتبرها أوباما حلاً للمسألة اليهودية، هي ضرورة للسلام والأمن الدوليين وللمصالح الأميركية كما باقي أطراف الصراع، على حد قوله. إسرائيل ردت على السيد أوباما مباشرة ورفضت وقف الاستيطان، وادعت أن هناك تفاهمات مع الإدارة السابقة تعطيها الحق في استمرار الاستيطان والتوسع، وعلى رغم رد كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية إلا أن إسرائيل استمرت في تأكيد الأمر، ليس هذا فحسب بل إن أوباما نفسه، ولم يمض على خطابه سوى يوم واحد، عاد وأكد عجز بلاده عن فرض أي حل في المنطقة. باختصار وحتى لا ندخل في متاهة الكلمات والتعابير، ونتمكن من فهم أعلى لكل الخطاب ولسياسة أميركا الجديدة تجاه حل المسألة الفلسطينية، فإنه يتعين إعادة تقييم أو بالأحرى تأكيد طبيعة العلاقة بين الدولة العظمى وحليفتها في المنطقة، التي تجعل المشكلة في نظر أوباما وأميركا لا تتعلق بالاحتلال أو العدوان أو الاستيطان أو الجدار العنصري ولا في استخفاف إسرائيل بالقوانين والشرعية الدولية، بل في ضعف الفلسطينيين وفرقتهم وعدم قدرتهم على ضبط حدودهم التي لم يحددها أوباما ولن يحددها، وكذلك في عدم انصياع «حماس» لرغبات المجتمع الدولي في وقف ما يسميه العنف والاعتراف بوجود دولة إسرائيل، ولأن الأسلوب كما طرحنا يختلف فقد جاء طلبه من حماس بعد أن تعمد تجاهل وصفها بالمنظمة الارهابية، وأقر بأنها تحظى بغالبية شعبية شرعية، الأمر الذي جر عليه انتقادات واسعة في بلاده ومن بعض الأبواق الصهيونية في تل أبيب. أوباما قدم للعرب وللمسلمين جرعة من الأمل بإمكان توقف بلاده عن منهج التدمير الذي اتبعته الادارة السابقة في العراق وأفغانستان والصومال وغيرها، وكذلك أعطى الفلسطينيين فرصة لخلق أحلام طيبة بحل مقبول لمعضلتهم، ولكنها أحلام غير قابلة للتحقق، بعد أن تراجع الرجل عما قاله بتأكيد رفضه لفرض الحل باستخدام نفوذ بلاده، ولذلك تصح الدعوة بعدم التعلق بحبال الهواء. [email protected]