على مدار سنوات لم يكلّ أمير تاج السر الكاتب السوداني، من نسج علاقته الغرامية بالمكان السوداني، تفاصيل وحيوات ومصائر ومفارقات مهدت له الغوص في أعماق المكان نفسياً واجتماعياً من دون أن يفصح. كان الشخوص وأقدارهم هم السبيل الذي اهتدى بعلاماته ليصارحنا بغرامه بالمكان. كتب أمير تاج السر دوماً عن سودانه بحنو وحب في أشد لحظات السخرية، فجاءت السخرية وهي تضامن وتعاطف مع الشخوص سواء كانت الشخصية رجل الأمن أم القبطي المتوتر. وكأن ما سبق من أعمال - التي تزيد عن خمسة عشر عملاً - كافٍ للوصول إلى التمكن من الكتابة علناً عن أرض السودان بحلوها ومرّها. كان المكان السوداني الذي يكتب عنه أمير تاج السر دائماً يتسم بالبراءة والبساطة وقابلية التصديق لكل ما هو جديد مع التشكيك فيه بالمقدار نفسه، وهي من سمات براءة المجتمعات الصغيرة التي لم يمر عليها الكثير من الخبرات المؤلمة بعد. في أحدث أعماله «أرض السودان: الحلو والمر» (2012) يعلن الكاتب هدفه بلا مواربة، فهو لن يكتب عملاً لتجميل صورة أو لإظهار إيجابيات وإخفاء سلبيات، وباختصار لن يكتب عملاً سياحياً، بل سيكتب الحلو والمر كما هو، معتمداً على ثقة الذات التي كانت واقعة تحت الاستعمار بنفسها أمام الآخر المستعمر الذي طالما اعتمد على التقليل من شأن هذه الذات وعمد إلى وضعها في مرتبة أدنى من ثنائيات متضادة. متسلحاً بهذه الثقة، ينطلق النص من رؤية ما بعد كولونيالية ليعيد سرد جزء من فصل الاستعمار البريطاني السودان (في الأصل كانت مصر هي الواقعة تحت الاستعمار لكنّ السودان كانت تابعة لها إدارياً). في حين أن ما بعد الكولونيالية يشكل الرؤية المعرفية للكاتب في هذا النص. يتقمص النص نفسه رؤية الآخر الغربي المستعمر فتكتمل الأركان الفلسفية للنص السردي. فتأتي الرواية وهى مسرودة من وجهة نظر وبصوت جلبرت أوسمان البريطاني الذي يقرر في نهاية القرن التاسع عشر الذهاب إلى السودان في مغامرة غير محسوبة. يستلب أمير تاج السر الصوت السردي للرجل الأبيض ويسرد السودان كما رآها بحلوها ومرّها. الاستعمار والاستشراق في هذا الاستلاب يمارس الكاتب ما استفاض بيل أشكروفت وزميلاه في شرحه في الكتاب الشهير «الإمبراطورية ترد بالكتابة» ( 2002). وكان ذلك في إشارة إلى التقنيات التي وظفها الكاتب الأفريقي الذي عانت بلاده من نير الاستعمار في كتابة الأدب المابعد كولونيالي. يرد نص «أرض السودان» بالكتابة على كل ما كتب من قبل بلغات مختلفة عن السودان وهو كثير. يدخل معظم إن لم يكن كل هذه الكتابات، في حقل الاستشراق في شكل كامل. فأدب الارتحال قام بتسليط الضوء على الغريب والأكزوتيكي الذي كان مادة الترفيه الرئيسة لأوروبا في القرن التاسع عشر، كما أنه تضمن التباين الثقافي والحضاري الذي سمح للذات الأوروبية بالتشكل عبر رسم صورة الآخر. لا يغفل أمير تاج السر ذلك ويجعل جزءاً من تحضير أوسمان للرحلة هو الاطلاع على مثل هذه الكتب في مكتبة لندن، وعندما لا تلبي هذه الكتب احتياجاته يتوجه لمقابلة أحد أساطين تجارة الرقيق الذي يعتقد أنه قد امتلك مفاتيح البلاد بتعلم اللغة. بهذا يتعلم جلبرت أوسمان لغة أرض السودان ويتوجه إليها عبر مصر منطلقاً من ميناء ليفربول. بالطبع يشكل التقابل بين لندنوالخرطوم (وبينهما الإسكندرية) الهيكل الرئيس الذي يقوم عليه النص، فمن حياة سلسلة هادئة لا يعكر صفوها سوى بصقة، إلى حياة مختلفة تماماً تموج بالبشر والحكايات، وهو ما يبرر عدم افتقاد أوسمان ذويه وانغماسه بكلية مشاعره في السودان. يتحول جلبرت أوسمان إلى عثمان الإنكليزي ويخوض أرض السودان حتى النخاع عبر لقائه بتاجر الإبل سيف القبيلة، ثم سكنه في نزل مستكة ثم رؤيته كيفية التشكل الثقافي للذكورة عبر النزال بين سيف القبيلة وجبريل الرحال، ثم تتوثق العلاقة بينه وبين عبد مستكة عبد الرجال حتى ينتقل إلى سكن مستقل فيغرق أكثر في تفاصيل المكان. يبدو النهب الاستعماري المنظم لهذه البلاد كان جزءاً من مهمات الرجل الأبيض، ولم يكن إنشاء السكة الحديد من الخرطوم حتى وادي حلفا إلا لتسهيل نقل البضائع. تتجلى المشاهد الاستعمارية النمطية والسلوك الذي مورس في مصر والهند وأفريقيا، فمشاهد الجلد تحت لهيب الشمس معتادة بعادية استقبال مستكة نفسها في نزلها يوم الخميس لوجهاء البلدة وهي الطبقة التي تضم البيض كافة الذين يحتلون مناصب. وبتصوير حياة عثمان الإنكليزي ينجح أمير تاج السر في وصف البنى الاجتماعية والاقتصادية التي سيطرت على أرض السودان في نهاية القرن التاسع عشر، وأهمها جذور التصوف وتجارة الرقيق التي كانت تشكل وجاهة اجتماعية ومكسباً اقتصادياً. امرأة طبيعية في لحظة ما في السرد كان لا بد لعثمان الإنكليزي أن يرتبط أكثر بأرض السودان فيقابل شرفية، تلك الفتاة التي اعتقد الجميع (والبيض أيضاً) أنها من الجن وساهمت هيئتها والخرابة التي تعيش فيها في ترسيخ هذا الاعتقاد، ويقع في حبها ويتخذ أكثر القرارات سذاجة: قرّر عثمان الإنكليزي أن يغيرها ويحولها إلى امرأة «طبيعية»، من وجهة نظره بالطبع. وعلى رغم المجهود الذي بذله وعلى رغم استجابة شرفية لكل التغيير الذي طرأ على حياتها لم يلتقط عثمان مغزى أو دلالة عدم تغير رد فعل المجتمع تجاهها، ولم يلتقط تحذير مستكة من أنه غريب تجاوز حدوده في بلاد ليست بلاده. في لحظة ارتكب عثمان الخطأ التراجيدي المنتشر لدى المستشرقين فاعتقد أنه أصبح جزءاً من أرض السودان، وأنه فهم المكان حتى أنه - بنزعة إنسانية - قام بشراء عبد الرجال ومنحه حريته (جزئياً لأن الأمر كان في غاية التعقيد بصفته تجارة أساسية)، ثم اعتنق الإسلام وأصبح اسمه عثمان الزمزمي، ثم عقد قرانه على شرفية. بعد كل الأجواء الأسطورية التي سبقت وصاحبت عقد القران وبعد اللقاء الأول بين شرفية وعثمان الزمزمي يستيقظ ليجد أنه نائم في «أرض قذرة، داخل عشة من الصفيح، ثمة جرذان ميتة، وطيور سوداء محطمة الأعناق، وآنية من الفخار مكسرة عند الحواف، وسائل لزج كأنه دم، يخرج من بين فخذيه، ويركض في المكان، وكانت شرفية تجلس أمامه، سمراء ونحيلة، ترتدي قميصاً بلون الأرض بلا أي زينة ولا إضافة، شعرها مقصوص كأنه لصبي، وبين شفتيها ليمونة مقشرة، تمصها في تأنٍ» (205). تحمل هذه النهاية الملتبسة تأويلات عدة. فعلى المستوى المباشر البديهي تبدو شرفية وكأنها خدعت عثمان ولم تتغير مطلقاً، أما على المستوى الرمزي فإذا أخذنا في الاعتبار تلك الرمزية الكلاسيكية التي تساوي بين المرأة والوطن (مصر يا أمه يا بهية) فسندرك أن الرسالة هي أن مجيء الغزاة والمستعمرين لن يغير من أرض السودان مطلقاً وستبقى هويتها كما هي. ولكن تبقى دلالة الدم الذي «يركض في المكان» وهي تعيد قلب موازين الدلالات كافة، فلا بد من أن يكون لوجود الدم معنى في المشهد الذي يدرك فيه عثمان الخدعة. هل كانت شرفية تنتقم من عثمان؟ هل يدخل أمير تاج السر في حوار مع «موسم الهجرة إلى الشمال» فيجعل من عثمان الزمزمي يفتتح موسم الهجرة إلى الجنوب؟