يستحسن أن ننسى بسرعة نسب «الأصدقاء» الى مؤتمر تونس بشأن سورية. في الأساس أخطأ كل من نسي مقولة «المصالح الدائمة» - لا الصداقات – أو اعتقد أن التعاطف مع الشعب السوري واستنكار جرائم النظام يمكن أن يصنعا سياسة مجدية في تفعيل طموحات الحرية والتغيير. كان اجتماعاً دولياً لإبداء النيات حيال سورية على وقع «لا تدخل... لا تدخل»، ما يطرح التساؤل: لماذا الاجتماع اذاً، طالما أن الجميع قال ما عنده على مرّ الشهور، ووسط مقتلة لا تزال في أوج عتوّها؟ وفي انتظار المؤتمر التالي في اسطنبول (أو مؤتمر باريس بعده)، تبدو حدود الارادة الدولية في ما يتعلّق بسورية بالغة الاحباط، اذ إنها بلونيها الروسي أو الاميركي لا تزال تعطي النظام ترخيصاً للاستمرار في القتل والتدمير. لذلك تسابق النظام والمعارضة، أو كادا، الى القول بأن مؤتمر تونس كان ل «أعداء سورية»، وبعض المعارضة قال انه ل «أصدقاء النظام». سيبقى اللغو في الخارج، وستبقى العقدة في الداخل، لكنها ستبقى محكومة بمعادلة النار وما قد يطرأ عليها من تغيير. سيستقوي النظام بانكشاف عجز «الأصدقاء» ومخاوفهم، وسيستقوي حلفاؤه ب «الاستفتاء على الدستور» ليقولوا مع سيرغي لافروف إن النظام «على الطريق الصحيح نحو الديموقراطية»! فالحلفاء يعرفون أن دستوراً واستفتاءً في مثل هذه الظروف لا قيمة لهما، لكنهم يرحبون بما يعزز مواقفهم ومصالحهم مهما بلغ غلوّها اللاأخلاقي واللاإنساني. بات مفهوماً الآن لماذا حظي النظام السوري بكل هذه الرعاية التي أعطته «الفرص» تلو «الفرص»، ولماذا تمنحه الآن فرصاً جديدة بل مفتوحة علّه يستطيع إنهاء انتفاضة الشعب. فهذه سياسة (أو استراتيجية) دولية ترى فيه ديكتاتورية محمودة وواجبة الوجود، طالما أنها تلتزم تعهداتها الخارجية (خصوصاً تجاه اسرائيل) ولا ترتكب أخطاء النظام العراقي السابق فلتفعل ما تشاء في الداخل. فحتى ارتباط هذا النظام السوري بإيران يُعامل اميركياً وإسرائيلياً باعتباره معطىً لا يخلو من ايجابية، فهو شكّل طوال العقدين الماضيين تعويضاً للنظام عن سلام تستصعب اسرائيل «أكلافه»، ثم أن هذا الارتباط أتاح لاسرائيل أن تبتز اميركا وأوروبا والعرب، علماً أنه يبقى أكثر ازعاجاً للعرب بما أحدثه من انقسام عربي عميق تستغلته ايران آنياً وتحتاجه الولاياتالمتحدة وإسرائيل في التسويات الاقليمية الحالية والمقبلة. في أي حال، سجّل الاميركيون (والاسرائيليون) أن الأزمة التي غرق فيها النظام السوري تحقق لهم مصلحة أكيدة، لأنها أضعفته إقليمياً وأفقدته الأمان الداخلي، وجعلته تحت رحمة الروس والإيرانيين بل عبئاً عليهم. لذا قد يبحث هؤلاء عن نهاية قريبة للأزمة اذا كانوا يريدون فعلاً أن يكون لهم نفوذ دائم في سورية ما بعد تظام الأسد. لكن دوافع روسيا وإيران ومصالحهما ليست واحدة ولا منسجمة دائماً، فطهران استثمرت في العلاقة مع دمشق وفي دعم النظام ما تعتبر أنه يؤهلها لإدارة انهاء الأزمة بأقل الخسائر، أما موسكو المستعيدة سوفياتيتها فلن تطمئن إلا الى تغيير تصنعه هي في سورية وتشرف عليه، وسيكون على طهران أن تتكيّف مع واقع كهذا. مثل هذا السيناريو سيكون مرضياً ولو جزئياً لواشنطن، أولاً لأنه يضمن استمرار «الأمر الواقع» الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ثانياً لأنه يلزم روسيا بإلزام محميّها النظام السوري «المعدّل» دوام السلوك الحسن حيال اسرائيل، ثالثاً والأهم أنه لن يكلفها وأوروبا أعباء دخول مساومة مع موسكو، فإذا لم يكن لسورية أن تقع تلقائياً في الفلك الاميركي، فالأفضل أن تبقى في كنف روسيا على أساس التفاهمات السابقة. فهذا هو «التوازن الاستراتيجي» الذي ارتضته الدولتان العظميان، وعلى أساسه بنت اسرائيل خياري «السلام المستحيل» مع سورية و «السلام غير العادل» مع الفلسطينيين. قد تبدو هذه «الصفقة» مسمومة بالنسبة الى روسيا. فهي لا تضطرها فقط لدعم نظام لم يعد بقوته السابقة بل ان الأضرار التي تراكمها للحفاظ عليه لا تساوي الفرص المتبقية للاستفادة منه أو للمساومة عليه. ذاك أن استبعاد التدخل العسكري (الغربي) لإسقاط نظام بشار الأسد ضيّق أمامها سبل ابتزاز المكاسب واستدراجها. صحيح أن الصراع الذي خاضته مع الغرب مكّنها من اثبات نفوذ لها في الشرق الاوسط، إلا أنه نفوذ كان لها ولم يعد يفيدها في أولوياتها الاستراتيجية في شرق اوروبا ووسط آسيا (الدرع الصاروخية وشبكة الرادارات)، وإذا لم تتمكّن من استخدام سورية وإيران معاً في مساومات كبرى مع دول الخليج ثم مع اميركا وأوروبا، فهذا يعني أنها ستخرج خاسرة من الصراع الحالي. إزاء دخول الأزمة السورية في أتون الصراع الدولي التقليدي، تبدو المعارضة السورية كأنها أمام حائط مسدود. فالنظام عاود تشغيل التفاهم الضمني، الاميركي – الروسي، كضمان لوجوده واستمراره، ويبدو هذا «التفاهم» متفاعلاً معه حتى الآن بعدما كان فشل سابقاً في التفاعل مع النظامين العراقي ثم الليبي على رغم المصالح الروسية الضخمة في كلا البلدين. لم تكن وزيرة الخارجية الاميركية مضطرة للتذرع ب «القاعدة» أو «حماس» أو ب «اولئك الذين على قائمتنا للارهاب ويقولون انهم يدعمون المعارضة» أو حتى احتمالات نشوب حرب أهلية... لتبرر اقصاء الخيار العسكري ودعم تسليح المعارضة. فالحجة الحقيقية اسمها «مصلحتنا ومصلحة اسرائيل»، وإلا فما الذي يُقحم «حماس» هنا وهي التي انسحبت تماماً من سورية بعدما تكاثرت الضغوط على قادتها «لإبداء التأييد والمبايعة للأسد»، كما أن المخاوف من «القاعدة» لم تثنِ «الناتو» عن دعم الثورة الليبية حتى تحقيق هدفها، مع علمه بوجود ترسانة أسلحة هائلة انتشرت سريعاً داخل ليبيا وخارجها. أما «الحرب الأهلية» التي تخشاها هيلاري كلينتون فهي التي يمكن أن تغرق سورية في الفوضى، وهي احد مخاوف اسرائيل، أما الحرب التي يخوضها النظام ضد الشعب وبرعاية روسية - إيرانية مكشوفة فتبدو كأنها مجرد «خسائر جانبية». في كل هذه الحسابات الاقليمية والدولية، ومنها مثلاً الرهان على أن «بوتين» الرئيس - بعد انتخابه - سيكون غير «بوتين» رئيس الوزراء في مقاربة الشأن السوري، يبقى شعب الانتفاضة واستعداده المذهل للتضحية العنصر الذي لا يعرف النظام ولا القوى الدولية كيف يمكن تصريفه أو التصرف معه، فكلما أرخى الخارج الحبل الملتف حول رقبة النظام، أحكمت الانتفاضة شدّه. حان للمعارضة بمجلسها الوطني وتياراتها كافة أن تجد السبيل لتثمير تضحيات شعب الانتفاضة فلا تذهب سدىً. * كاتب وصحافي لبناني