بعد معرض سوتين الاستعادي، يقترح علينا القيّمون على متحف «بيناكوتك» الباريسي إعادة اكتشاف فنانٍ كبيرٍ آخر من «مدرسة باريس» أهملته المتاحف والمؤسسات الفنية الفرنسية منذ أكثر من ثلاثة عقود: موريس أوتريلّو (1883-1955). والمثير في هذا المعرض هو تشكيله حتماً تحدّياً لعددٍ كبير من مؤرّخي الفن ونقّاده الذين ينظرون إلى هذا الفنان باستخفاف واحتقار لأسباب لا علاقة لها إطلاقاً بإنجازاته الفنية المهمة، وأبرزها تخطّيه الانطباعية التي اختبرها وكانت طاغية في زمنه وابتكاره أسلوباً فريداً ساهم بقوّة في بلورة معظم الجماليات والمبادئ التي تميّزت بها «مدرسة باريس». وتركيز المعرض على هذه النقطة بالذات استدعى من منظّميه إشراك والدة أوتريلّو، الفنانة الكبيرة سوزان فالادون، نظراً إلى دورها المميّز والمكمِّل لما أنجزه ابنها. ولفهم الموقف السلبي لمؤرّخي الفن ونقّاده من أوتريلّو لا بد من التوقف أوّلاً عند تعريفهم ل «مدرسة باريس» كمجموعة من الفنانين الذين أتوا إلى باريس واستقرّوا فيها انطلاقاً من عام 1910، ومعظمهم من أوروبا الشرقية ومن أصل يهودي، وهو تعريفٌ تقريبي لم يكن من السهل بلوغه نظراً إلى غنى المدرسة المذكورة وصعوبة تحديد حدودها ومعالمها. فأوتريلّو مثلاً انتمى إليها، بل كان أحد روّادها كما سبق وأشرنا، لانطلاقه في الرسم ضمن الأسلوب الذي ستشتهر به هذه المدرسة، منذ عام 1908. لكنه كان فناناً فرنسياً، ولم يكن يهودياً. وهذا ما حوّله إلى عنصر إزعاجٍ وقلقٍ لمؤرّخي الفن يفضح عدم دقة تعريفهم ل «مدرسة باريس»، وما يُفسّر بالتالي تجاهلهم له أو، على الأقل، تقليصهم لأهميته وفقاً لمبدأ «من المريح أكثر إهمال ما لا يمكن تصنيفه». الهدف الآخر الذي يتوق المعرض الحالي إلى تحقيقه هو تفجير الحُكم المُسبق الثاني الذي عانى منه الفنان ولا يزال، أي أوتريلّو السّكير أو ذلك الذي لُقِّب ب «ليتريلّو»، وهو لقب يعكس ضيق النظرة التي ألقيت عليه منذ البداية وارتكازها حصراً على تعاطيه الخمر. فعدد كبير من الفنانين الكبار مرّوا بالظروف ذاتها من دون أن يُشكّل ذلك منطلقاً للحكم عليهم أو على فنّهم، وعلى رأسهم موديلياني، رفيق أوتريلّو في «مدرسة باريس». ولا يفسّر الانحدار المفاجئ لقيمة أعماله انطلاقاً من العشرينات من القرن الماضي هذا العنف الذي تعرّض له الفنان أو حتى إدراجه في خانة الفنانين السيّئين. فأندريه دوران وفلامينك وبراك لم يعانوا من عنف مشابه، مع العلم أن قيمة أعمالهم انحدرت بسرعةٍ أكبر. لعل الجواب هو في طبيعة العلاقة الخاصة التي ربطت أوتريلّو بوالدته سوزان فالادون ونتج منها تشابك فريد من نوعه في تاريخ الفن بين إنجازات الابن الرائدة والمؤسِّسة لحركةٍ فنية وإنجازات الأم ذات الطابع الانتهاكي والمكمِّل لاختبارات ابنها، في الوقت الذي بدأت قيمة أعماله في الانحدار. ويحاول المعرض، عبر طريقة تنظيمه على شكل مقابلة بين أعمال الاثنين، إظهار ذلك «الذوبان» المدهش لأعمال كلّ منهما داخل أعمال الآخر ومنحنا، من خلال ذلك، تفسيراً ل «الخزي» الذي يلطّخ سمعة أوتريلّو بطريقة جائرة ويخفي موقعه الطليعي وأهميته. شخصية انتحارية بامتياز، أوتريلّو هو قبل أي شيء فنانٌ رؤيوي كره البشر والمجتمع ومنحنا مناظر طبيعية رائعة حقّقها بأسلوبٍ انطباعي، قبل أن ينطلق في تجسيد رؤيته المثالية للمدينة بأسلوبٍ شعبي وساذج وتقنية توحّشية، رؤيةٌ تنبثق جماليتها من استخدامٍ فريد للتضاريس والأبعاد يفتننا بقدر ما يدعونا إلى إعادة اكتشافه. ولا عجب في ذلك، فأمّه أيضاً فنانة خارجة عن المألوف بدأت مسارها كموديل لأهم الفنانين الانطباعيين (رونوار وتولوز لوتريك...) قبل أن تصبح بدورها رسّامة وتحقّق بسرعة أعمالاً تقارب فيها مواضيع اجتماعية وجنسية بطريقةٍ انتهاكية، في فترةٍ كان فن الرسم كمهنة حكراً على الرجال. وفعلاً، أنجبت فالادون فنّاً غرف في بداياته من مراجعٍ كثيرة تعود إلى الفنانين الكلاسيكيين ودوغا، وانخسف لمدة عشرين عاماً أمام فنّ ابنها المُجدِّد، قبل أن يسطع في المرحلة التي بدأ أوتريلّو فيها تكرار نفسه. وقد تميّز هذا الفن بتركيزٍ كبير على موضوع البورتريه الذي عالجته فالادون بواقعية شبه فوتوغرافية وسجّلت فيه قطيعة مع الأسلوب الذي تعلّمته من دوغا لرسم الوجه البشري. لكن فالادون هي أيضاً المرأة التي أنجبت لنا فناناً كبيراً انبثق منه تيّارٌ فني تربّع في قلب العالم الثقافي طوال الربع الأول من القرن العشرين وساهم في ولادة فنٍّ بوهيمي وشعبي لا علاقة له بالطبقة الاجتماعية البورجوازية وببعض شبّانها الثائرين على الاتّباعية، أربابه شبّان فقراء، مثل سوتين وموديلياني وباسكين، بلغوا حدّاً عالياً من اليأس واستخدموا الكحول كوسيلةٍ للانتحار، والفن كوسيطٍ للتعبير عن صعوبات عيشهم.