عندما أصدر السيد محمد باقر الصدر كتابه: «فلسفتنا»، عام 1959، كان الحزب الشيوعي هو المسيطر على الشارع العراقي، بما فيه مدينة النجف، وكان يحكم من وراء عبدالكريم قاسم. لم ينل ذلك الكتاب بعض قيمته، (وهو بالتأكيد من الكتب العربية القليلة طوال القرن العشرين التي يمكن القول إنها تحوي انتاجاً فلسفياً)، إلا بعدما بدأت موجة المد الإسلامي، بفرعيه السني والشيعي، في الربع الأخير من القرن الماضي. يطرح هذا الأمر فكرة أن الموجات السياسية تتوازى معها علامات مرافقة - متزامنة، لنجد الأخيرة ممتدة وشاملة حقول الأفكار والثقافة والفن ومظاهر اجتماعية مثل الأزياء، وهذا ما رأيناه بوضوح في فترة المد الليبرالي العربي (1919-1952) ثم في فترة المد الإسلامي (منذ عام1975)، فيما كان أقل ظهوراً في فترة المد القومي العروبي (1956-1970) وهو ما يعود ربما إلى ضعف الحمولات الفكرية - الثقافية للتيار القومي العروبي بفرعيه الناصري والبعثي. في المقابل، يظهر، أيضاً، أن الأفكار المتداخلة مع السياسة لا تأخذ مداها وتتحول إلى رائجة إلا مع مد سياسي مطابق لها أيديولوجياً، وهذا يشمل المؤلفات ذات القيمة، والتي تظل منسية أو مهملة أو لا يُلتفت إليها حتى يحصل ذلك المد، فيما مؤلفات أخرى يصاب المرء بالدهشة من ضحالتها عندما يطالعها من جديد بعد انتهاء موجتها السياسية، وهي كانت أثناء تلك الموجة بارزة في المبيعات ومراجعات الصحف والمجلات والوسط الأكاديمي. هذا لا يعني، أن هناك مفكرين تغيب أو تتلاشى أهميتهم مع دخول تيارهم السياسي في مرحلة الجزر، مثل كارل ماركس في مرحلة ما بعد السوفيات، حيث لم يعد يأخذ أهميته في الأوساط الفكرية كفيلسوف سياسي لتيار، وإنما من خلال أفكاره المطروحة في مواضيع محددة، مثل نظريته حول دورية الأزمات الرأسمالية التي عادت الى التداول الأكاديمي والصحافي في الفترة التي أعقبت نشوب الأزمة المالية - الاقتصادية بدءاً من الولاياتالمتحدة في أيلول (سبتمبر) 2008. ما سبق يظهر أن الموجات السياسية ليست ذات حمولات سياسية محضة وإنما لها مرافقات فكرية – ثقافية - سلوكية – مظهرية، تعبر عن مناخات تسود في مجتمع محدد وتفرض ايقاعاً معيناً في غالبية أو مجمل النسيج الاجتماعي. في هذا الإطار، يلاحظ أن الموجة السياسية لا تبدأ إلا بعد انتهاء أخرى أو فشلها، كما حصل بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948 وما عنته من قرب انتهاء المد الليبرالي، وهو ما تكرر عام 1967 حين أعطت هزيمة 5 حزيران (يونيو) علامات على دخول المد القومي العروبي في مرحلة الجزر. هنا، يلفت النظر أن انهيار الدولة العثمانية في عام 1918 كان مؤدياً إلى انتعاش الأفكار الحداثية التغريبية في منطقة المشرق العربي، وكذلك نكبة فلسطين عام 1948 مع انتعاش العروبة، وفي هاتين الحالتين كان الفرق الزمني بين المد الفكري - السياسي - الحزبي وبين تسلّم السلطة السياسية قصيراً من الناحية الزمنية، فيما احتاج الأمر إلى ثلث قرن من الزمن كان فاصلاً بين المد الفكري - السياسي - الحزبي وبين تسلّم السلطة السياسية (تونس ومصر 2011-2012) بالنسبة الى التيار الإسلامي، بعدما كان الصدام بين الإسلاميين والسلطات الحاكمة في مصر (منذ 1990) وتونس (1991) والجزائر (1992)، بالترافق مع دعم الغرب الأميركي - الأوروبي للأنظمة الحاكمة بعد انفكاك تحالفه مع الحركة الاسلامية العالمية عقب انتهاء الحرب الباردة مع السوفيات عام 1989، الذي أدى إلى عدم قدرة الإسلاميين على ترجمة نفوذهم الفكري - السياسي - الحزبي في المجتمع إلى طريق سالك نحو السلطة السياسية. وقد كانت تجربة الانقلاب العسكري (11 كانون الثاني/ يناير 1992) في الجزائر، المدعوم من باريس ثم واشنطن، مثالاً واضحاً من حيث سدِه للمسار الانتخابي البرلماني أمام تحقيق فوز «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجولة الثانية للانتخابات بعد أن أعطت الجولة الأولى قبل أسبوعين من الإنقلاب مؤشرات كافية على اتجاههم الى فوز كاسح. في عامي 2011 و 2012 انتهت هذه المعادلة، عقب اتجاه واشنطن، ابتداء من تجربة سقوط الرئيس المصري حسني مبارك، إلى تفادي تجربة تولي قوى معادية لها عقب سقوط حكم الحلفاء، كما حصل في طهران 1979، من خلال ملاقاتها للتيار الإسلامي التي صعدت موجته السياسية إلى السطح الاجتماعي بفعل عوامل التآكل الداخلي للقوة الاجتماعية للنظام الحاكم الحليف لواشنطن. من خلال التجربة المصرية لفترة ما بعد مبارك، كان اجتماع الغطاء الدولي، مع التآكل الذاتي لقوة النظام من حيث تمثيله الاجتماعي، مؤديين إلى تحول وترجمة موجة فكرية - ثقافية - سياسية - حزبية إلى موجة وصلت إلى السلطة السياسية، من خلال فوز برلماني استطاع من خلاله الإسلاميون نيل الثلثين، ولو عبر نموذج تعايش يشبه ما هو حاصل في أنقرة منذ انتخابات برلمان عام 2002 بين الإسلاميين والمؤسسة العسكرية، وأيضاً برضا أميركي. * كاتب سوري