«إنه اليوم الأكثر سواداً في حياتي. لا أريد أن أتذكره. بالإضافة إلى الألم الرهيب الذي شعرت به أثناء خضوعي للعملية، ظللت أنزف أربعة أيام في البيت حتى ظننت أنني سأموت». (آية، 15 سنة) «كان شعوراً بشعاً. كنت أشبه بالذبيحة، والجميع واقف من حولي يحملق وكأنها حفلة. شعرت أنني أكرههم، والدتي وخالاتي وعماتي وشقيقاتي. كنّ يزغردن وأنا أصرخ من الألم. ليتني كنت صبياً». (شريهان، 17 سنة). هاتان الشهادتان كانتا تمثلان المدخل الكلاسيكي لتناول قضية ختان الإناث الملقب أممياً ب «تشويه الأعضاء التناسلية للنساء»، وذلك من قبل أجهزة الدولة الرسمية المعنية بملفات حقوق النساء والفتيات، ومن ثَم في دوائر الإعلام. تجريم «صُوَري» لكن هذا كان قبل ثورة 25 يناير 2011. وأغلب الظنّ أن مثل تلك الشهادات لن تجد طريقها إلى إصدارات الدولة الرسمية، وإن فعلت فلن تجد آذاناً صاغية، وإن وجدت فلن تجد من يعتد بها أو يأخذها في الاعتبار، وإن حصل ذلك فستقابل بالمعارضة والرفض، وربما بالإدانة والتنديد. فمصر «الحقوقية النسائية» بعد الثورة، تختلف عنها قبل الثورة. و»تشويه الأعضاء التناسلية» الذي ورثه المصريون عن الفراعنة، مرشّح لأن يتحول إمّا إلى «حرّية شخصية متروكة لأصحاب الشأن»، وهم في هذه الحال أهل الفتاة، شرط أن يجري ضمن ظروف طبية وصحية تضمن سلامتها، وإما إلى «إجراء طبيعي شأنه شأن تلقيح المواليد». وعلى رغم صخب الساحة السياسية والتباس الواقع الاجتماعي وتوتر الوضع النفسي حالياً، ما لم يسمح بالتطرق المباشر إلى مسألة ختان الإناث بعد، فإن المؤشرات كلها تؤكد أن دورها قادم لا محالة، وأن تناولها سيختلف شكلاً وموضوعاً عمّا كان عليه قبل الثورة. فبزوغ نجم التيارات الدينية السياسية وسيطرتها على مجلس الشعب (البرلمان) يعني أن ملفات مثل حقوق المرأة والطفل مرشحة لإعادة النظر. وقبل نحو شهرين أصدر «الائتلاف المصري لحقوق الطفل» (منظمة حقوقية مصرية) بياناً عبّر فيه عن «الاهتمام» - الذي ربما يكون قلقاً أكثر منه اهتماماً - بحقوق الطفل المصري والقوانين الصادرة في هذا الشأن. ووصف البيان تجريم ختان الإناث في قانون الطفل لعام 2008 ب «التطور الإيجابي وتلبية لجهود منظمات المجتمع المدني المصرية منذ عام 1931». ولحظ الائتلاف الجانب التطبيقي، واصفاً إياه بالتطبيق غير المنتظم، وبخاصة لجهة الملاحقات القضائية. وتراجع انتشار ختان الإناث من 76.5 في المئة عام 2005 إلى 74.4 في المئة عام 2008. والمثير أن 72 في المئة من حالات الختان تجري على أيدي الأطباء، وهي النسبة التي ارتفعت من 45.8 في المئة عام 1995 إلى 72 المئة عام 2008. وتوقّع تقرير صادر عن المنظمة خفض المعدل على مدى السنوات الخمس عشرة المقبلة بين الفتيات في سن 15-17 ليصل إلى 45 في المئة. ويبقى الطلب الرئيسي للجمعيات الحقوقية ضرورة تطبيق المادة 242 من قانون العقوبات التي تنص على تجريم جميع المتورطين في إجراء الختان داخل مؤسسات وزارة الصحة وخارجها. وعلى رغم أن الختان حرام في الإسلام، فقد شهدت الموافقة المبدئية على قانون يحظر ختان الإناث معارضة شرسة من قبل النواب من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين (المحظورة في ذلك الوقت)، الذين وصفوا القانون حينها بأنه مخالف للشريعة الإسلامية، ومستورد من الخارج، وهددوا باللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا للطعن بعدم دستوريته. وفي عام 2012، بعد أن أصبحت الجماعة، عبر ذراعها السياسية «حزب الحرية والعدالة»، تنعم برضا غالبية المصريين فإن الملف الذي شغل جانباً كبيراً من اهتمام الدولة والمنظمات الدولية وعدداً من المنظمات المحلية على اعتباره عادة سيئة تجب محاربتها مرشح لإعادة «القراءة»، على قاعدة اعتبارها من المجتمع الرافض لهذه العادة والحقوقي «ردة حقيقية». مستقبل قاتم وكان تحقيق نشرته مجلة «نيو ريبابليك» الأميركية في أواخر العام الماضي، أشار إلى أن ظاهرة ختان الإناث زادت في مصر عقب سقوط نظام الرئيس السابق حسني مبارك، غير أن التحقيق لم يكن مدعّماً بدراسات أو استقصاءات أو نسب مئوية. لكنه استند إلى ارتباط مناهضة ختان الإناث في مصر باسم قرينة الرئيس السابق السيدة سوزان مبارك، وهو ما يعني ارتباط سياسة المناهضة بنظام سقط. واحتمال ازدياد عدد المختونات، غير مرتبط بسقوط النظام، بل يعود لأسباب كثيرة منها عدم انحسار هذه العادة على رغم تجريمها، وبسبب القناعة «بحتمية» إخضاع الفتيات للختان، سواء لأسباب دينية أم تتعلق بالعادات والتقاليد. هذه القناعة التي بقيت راسخة على رغم ضغوط الجهود الرسمية، والاحتفالات الموسمية بإعلان قرى «خالية» من ختان الإناث. وتبقى الجهود الكبيرة التي بذلت غير كافية، وإن كانت في كثير من الأحيان حقيقية وصادقة. ولا يُنبئ المستقبل القريب بتغيير الصورة «القاتمة» المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعادات والتقاليد والفقر والجهل والتأثر بالقيادات الشعبية والدينية. وفي ظل الأزمة الحالية لمنظمات المجتمع المدني الأجنبية العاملة في مصر، وال»أوركسترا» السياسية والإعلامية التي تعزف مقطوعة التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية وفرض أجندات أجنبية، يُتوقع أن تُواجه قضايا مثل مناهضة ختان الإناث بكثير من العداء الداخلي، بخاصة أن الختان، في أوج سيطرة النظام السابق المناهض له، كان يتعرض لحملات انتقاد من جهات ذات طابع ديني مكمّم رسمياً لكن محبوب شعبياً، على اعتباره تطبيقاً لأفكار غربية غرضها تقويض الأمة وإفساد أخلاقها!. ويحمل المستقبل القريب احتمالين لا ثالث لهما، الأول أن ينتصر التيار المتشدّد ويلقي بظلاله على الجوانب الحقوقية، ولو كنوع من التشفي بعد سنوات من الكبت، أمّا الثاني فيتمثّل بأن يتم إحكام العقل وفتح الباب أمام حوار علمي ديني صحي حقوقي، يضع الأمور في نصابها لتصبح الحقوق البديهية ومنها حق حماية الجسد حقاً غير قابل للمزايدة السياسية أو التأويل الديني.