قصة حقيقية لم يزُر وليم بويد فيينا قبل أن يكتب «أرماديلو» في أواخر التسعينات. أو مانيلا قبل أن يصدر «بعد الظهر الأزرق» في أوائلها. الكاتب السكوتلندي يمضي سنتين يبحث في موضوعه، ويستخدم عشرة في المئة من المعطيات التي يجمعها. «تبغي لنسيج ذلك العالم وعاداته أن تكون حيوية وواضحة تماماً لكي يتابع القارئ المطالعة بطريقة مختلفة بوجود تلك الثقة. ما تبحث عنه هو ذلك التفصيل المعيّن الذي تشعّ الصفحة معه». روايته الرابعة عشرة «في انتظار الشروق» الصادرة عن بلومزبري تطلّبت ثلاث زيارات إلى فيينا، قراءة نحو مئة كتاب عن التحليل النفسي، الطب النفسي والتاريخ، وتفحّص الخرائط وكتب الصور القديمة وحتى جداول رحلات القطار. تنفّس روح المدينة في الشوارع، المقاهي، وحين دخل منزل سيغموند فرويد فكر أنه كان يمكن أن يكون هناك في 1910. وكم كان غريباً وخطراً أن يخضع المرء يومها للتحليل النفسي، ويتحدّث عن طفولته الجنسية. بدا ذلك دجلاً. كالانضمام إلى جماعة «المونيز» مثلاً. في 1913 يقصد الممثل الإنكليزي لايسندر ريف الدكتور بنسيمون، من أتباع فرويد، في فيينا. شاب حليق، أنيق، عريض الكتفين ووسيم تقريباً. يقف في زاوية شارع أوغستينر ويبدو مثقفاً، خبيراً بالعالم. لكنه «عرف كم كان تنكّره واهياً كلما واجه أشخاصاً يملكون أدمغة حقيقية». رغب في تحول فيينا إلى مصحٍّ جميل مليء بالغرباء، وشابه الهراء في يومياته ما يكتبه تلميذ: «الحياة أكبر من الحب. اعكس ذلك. الحب أكبر من الحياة». لكنه رغب في التعلم والزواج بخطيبته وكتابة الشعر. جاء ليستشير الدكتور بنسيمون في عجزه عن التمتع تماماً بالجنس فنوّمه مغناطيسياً وأعاده إلى المراهقة. نعم، كان يمارس الجنس وحيداً في الحديقة يوماً، وغفا فضبطته والدته. لام البستاني فطردته الأم مع ابنه. يعتمد الطبيب نظرية «الموازاة» الوهمية التي تساعد المريض على ابتكار ماضٍ مختلف، مريح. «العالم محايد أساساً - مسطّح، فارغ من المعنى والأهمية. نحن، خيالنا، الذين نحييه ونملأه ألواناً، مشاعر، غاية وعاطفة. ما إن نفهم ذلك حتى نتمكّن من تشكيل عالمنا كما نرغب. نظرياً». يلتقي في العيادة نحاتة إنكليزية مضطربة يرتبط بعلاقة معها، ويشفى من مشكلته. حين تتّهمه هيتي باغتصابها يواجه السجن عشر سنوات. تساعده السفارة الإنكليزية على الهرب، وتعلن الحرب بعد عودته إلى بلاده. يتسرّع بالتطوع في فرقة مشاة خفيفة، لكنه يكلّف مهمة جاسوسية لكشف بريطاني خائن في المفوضية العليا. ماذا يفعل شاب لاهٍ، لم يلاحظ اندلاع الحرب، في عالم الظلال والأشباح الخطير؟ أمكن دائماً الاعتماد على خفة لايسندر الذي رغب في فسخ خطبته ليتفرّغ لفراش زميلته في مسرحية «مس جولي» حين أشعل النازيون أوروبا. لكن الشاب ينمو ويفوق رؤساءه مهارة في الوقت الذي يفكّر أن حياته تتبع طريقاً لم يخترها. «أنا راكب في قطار لا فكرة لدي عن مساره أو وجهته». يهجس بويد بالهويّة والحقيقة ووقوع الفرد العادي بالصدفة في طريق التاريخ. من الذي يشكّل الآخر ويحدّد المصير؟ يقول لايسندر عن العميل المشتبه به إن الكذب علّة وجوده، ويشكو الخائن نفسه من أن لا أحد يعرف الحقيقي والصحيح. فُتن بويد بفيينا، عاصمة الإمبراطورية المحتضرة والبورجوازية المزدهرة في مطلع القرن العشرين، التي جمعت رجالاً فرشوا ظلّهم على الزمن الآتي. فرويد، شيلر، كليمت، أدولفغ لوس وشونبرغ. يحرّك فرويد الرواية التي تشرح نظرية التحليل النفسي، ويلتقيه لايسندر في المقهى وهو يقرأ الصحف. يراه بويد صاحب واحدة من نظريات ثلاث ثوّرت فهمنا لأنفسنا بعد دوران الأرض حول الشمس ونظرية أصل الأنواع لداروين. ولئن فقدت نظريته صدقيتها لا نزال نعترف بدور اللاوعي في حياتنا. في الخريف الماضي بيع رسم لنات تيت في مزاد في سوذيبيز، لندن، بأكثر من سبعة آلاف جنيه. فوجئ بويد حين رآه مع أعمال للاوري وإدوار بورا وأغسطس جون. في أواخر التسعينات نشر بويد «نات تيت: رسام أميركي» عن فنان وهمي انتحر ليأسه من عاديته. طمح الكاتب إلى أن يكون فناناً في طفولته، ورسم بضعة أعمال بنفسه ووقّعها باسم تيت. شاء إبراز واقعية الفبركة الأدبية المحضة، وسهولة الانقياد للموضة بصرف النظر عن الموهبة. لا يقف بويد في الصف الأول للكتّاب البريطانيين، لكنه راوي قصة ممتاز باعتراف الجميع. كيف نكرّم ديكنز؟ كيف تكرّم بريطانيا كبارها؟ في السابع من شباط (فبراير) احتفلت لندن وبورتسميث بالمئوية الثانية لولادة تشارلز ديكنز. وضع ولي العهد الأمير تشارلز إكليلاً على قبره في زاوية الشعراء في كنيسة وستمنستر، وشارك في القداس. اعترف رئيس أساقفة كانتربري أن الكاتب لم يأبه بالدين التقليدي، لكن التعاطف في أعماله يعكس القيم المسيحية. رواية «بيت موحش» أعمق أعماله الثيولوجية «مع العلم أن ديكنز لن يشكرني على قولي ذلك». تمتع بقدرة فريدة على تصوير الوضع البشري مبالغة وكاريكاتوراً، قال، والشخصيات الغريبة هي أول ما نتذكره من أعماله. استفتاء لدار بنغوين حول شخصيات ديكنز المفضّلة أكّد رأي رئيس الأساقفة. احتلّ سبعة أشرار من شخصياته المراتب الأولى، ونال سكروج من «ترنيمة ميلادية» التاج تليه مس هافيشام وصيفة. الممثل البارز ريف فاينس أدى دور السجين ماغويتش في اقتباس بي بي سي ل «آمال كبيرة»، وقرأ بتأثر مشهد وفاة الفتى الشريد في «بيت موحش». بعد الاحتفال زار ولي العهد منزل الكاتب في شارع دوتي الذي حوّل متحفاً، وأصغى إلى قراءة من أدبه للممثلة الإنكليزية - الأميركية غيليان أندرسن التي أدّت دور مس هافيشام في عمل بي بي سي. في بورتسميث أدى أطفال مشاهد من «أوليفر تويست» في المنزل حيث ولد ديكنز، وأنشد الممثل سايمن كالو: «هابي برثداي» مع المحتفلين. سار أعضاء «نادي بكويك للدرّاجات» في الشوارع بثياب القرن التاسع عشر ودراجاته إشارة إلى «أوراق بكويك» التي عرف معها شهرة سريعة حين صدرت في 1836. أهدى وزير الثقافة نسخاً من روايات الكاتب إلى زملائه في الحكومة كان نصيب رئيس الوزراء منها «أزمنة صعبة» و «آمال كبيرة» إشارة ربما إلى الأزمة الاقتصادية. شاركت أربع وعشرون دولة في ماراثون مطالعة بدأ بمقطع من «دومبي وولده» في أستراليا وانتهى بمشهد من «لغز إدوين درود» في الإمارات العربية المتحدة. وكانت هناك طوابع للكاتب وأشهر شخصياته من البريد الملكي، و «رسائل مختارة من تشارلز ديكنز» نقحته جيني هارتلي. كتب 14 ألف رسالة، واختارت هارتلي ترتيب الرسائل بطريقة تروي حياته. المطالعة نصف ساعة كل يوم تساوي عاماً كاملاً عند بلوغ الخامسة عشرة. لكن الكاتبة كلير تومالين التي أصدرت سيرة ديكنز الخريف الماضي أشارت إلى عجز الأطفال عن التركيز. التلفزيون مضاء طوال الوقت في البيوت، والمدارس لا تزوّد التلامذة بمهارات المطالعة أو التركيز. ديكنز أعظم مصوّر للشخصيات بعد شكسبير في الأدب الصادر بالإنكليزية، وحين جال في أميركا في 1842 ذكر أن الناس «غير المهمين والهامشيين» يثيرون اهتمام الكاتب مثل «الكبار». كتب عن الهوة بين الأثرياء والفقراء، الفساد في قطاعي السياسة والمال، اقتصار الطبقة الحاكمة على خريجي مدرسة إيتن، ولا نزال معنيين بالمسائل نفسها. دائرة التربية أعلنت عن مسابقة للتلامذة بين السابعة والثانية عشرة وجوائز لمن يطالع أكبر عدد من الكتب. كشفت الإحصاءات أن واحداً من ستة لا يقرأ جيداً بعد الانتهاء من المرحلة الابتدائية، والهم ليس الأمية فقط بل تشجيع من يقرأ رغماً عنه على التقاط كتاب من تلقاء نفسه. رفض ديكنز الأبهة في جنازته صراحة، لكن الشجب الشعبي لوصيته دفع كنيسة وستمنستر إلى تخصيص مكان لجثمانه في زاوية الشعراء. قبلت أسرته شرط إقامة قداس خاص، وذكرت صحيفة «ذا تايمز» يومها أن الجثمان نقل سراً إلى محطة تشارينغ كروس. غاب الترتيل والترنيم حتى عن كلمة «آمين» ورافق أربعة عشر شخصاً فقط الجثمان حين ووري التراب. لكن عميد الكنيسة أبقى القبر مفتوحاً لإتاحة فرصة الوداع للشعب. فرويد ... يونغ وسابينا يتزامن صدور «الجنس إزاء البقاء: قصة سابينا سبيرلاين» لجون لونر مع عرض فيلم «منهج خطر» عن مريضة وطبيبين. في 1904 يعالج كارل يونغ، تلميذ سيغموند فرويد، شابة يهودية - روسية قصدت عيادته في سويسرا. ضربها والدها وأذلّها منذ طفولتها، واختلط شعورها بالخزي مع المتعة. اعتمد يونغ «العلاج الناطق»، أو التحليل النفسي، مع سابينا سبيرلاين التي شفيت وعملت باحثة مساعدة للطبيب البورجوازي وعشيقته. صعق فرويد لمخالفة يونغ قسم الطب، لكنه دعمه حين أنهى زميله العلاقة وكتبت سابينا تطلب مساعدته. كانت الضجة المحتملة ستقضي على العلاج بالتحليل النفسي في بدايته، واشترك الطبيبان في تغطية العلاقة. درست سابينا الطب النفسي وعملت في فيينا حتى قتلها النازيون مع ابنتيها في 1942. يصغي فرويد ويونغ إلى نظريتها في الجنس والموت باحترام في الفيلم، لكن لونر يقول إنهما سخرا من النظرية وربطاها بمازوشية سبيرلاين. يرى لونر أنها سبقت عصرها بقرن، ويبدو اليوم أن جوهر نظريتها صحيح. عزت المشاعر السلبية والإيجابية إلى عمل الدماغ ضمن غايتين متناقضتين: البقاء والتناسل، وقالت إن الجنس بنّاء وهدّام في آن، وإن الحمل نوع من الغزو. عندما نرغب في الجنس نعي خوفنا من الموت، وكلا الرجل والمرأة يحاول مقاومة الآخر حين يتناسلان.