ليس حديثاً بمناسبة تعيين رئيس جديد للهيئة وأسأل الله له العون والتسديد في ما شرف وكلف به ولكنها انقداحات ذهنية بأفكار تطويرية، أردتُ أن أوقد بها شمعة بدلاً من لعن الظلام على حد تعبير المثل الصيني وهي أي المقترحات حدث مفتوح للتطوير والتدوير، وهكذا هي طبيعة الأفكار، وهي بالمناسبة دعوة لعقد ورش عمل لعصف ذهني تشارك فيه قوى وآراء مختلفة. يا قارئي الكريم: ليس من شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر إلهي عظيم، وسلوك نبوي شريف، ففي القرآن الكريم ما يؤكد رسالية هذا الفعل (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ). إن الألف واللام في ال «معروف» وال «منكر» فيها ما يفيد الاستغراق، ما يستدعي توسيع وتطوير المفهوم ليشمل التغيرات والتحولات والأحداث والمستجدات، في قراءات متجددة تعي الحاضر وتستشرف المستقبل. لن يخرج المعروف عن معاني الحُسن والجمال، ولن يخرج المنكر عن معاني القبُح والرداءة، وإدراك هذه المعاني مشترك بشري في الطبائع والعقول، ومن المتأكد أن الشرائع تُكمّل الفِطر، وتأمر بما يزكي النفوس ويحرر العقول، وييسر المعاش، لتجعل أي الشريعة من الوجود حياة طيبة وطعماً حلواً (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ الدُّنيا حلوةٌ خَضِرة، وإنَّ الله مُستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملُون؟»، رواه مسلم. والبشر إذا اجتمعوا كان لا بد من اختلاف ثقافاتهم وتقاطع مصالحهم، مع ما في طبائعهم وتربياتهم وبيئاتهم من الاختلاف والتباين، ونتيجة لذلك تقع منهم المخالفات، ويحصل منهم التقصير، لتأتي رسالة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» كصمام أمان يشارك مع جهود أخرى في وعي المجتمع واستقامة أفراده. والوعي بهذه المقاصدية سينتج شخصية الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بنمط مختلف، يمتلكها الحرص وتحركها الرحمة، كما هي صفة رسول الأمة عليه الصلاة والسلام (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، الأمر الذي يقتضي معيارية التغليب والترجيح عند الاختلاف والتزاحم، كما يقول الفقيه ابن تيمية: ليس الفقيه من يعلم الخير من الشر، وإنما الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين. انتهى كلامه رحمه الله. وإذا كان من يقع في مخالفة المعروف فإنما يقع لجهله بالأمر، أو عدم إدراكه لمصلحة وحكمة الأمر، أو لحاجته واضطراره، أو لضعفه، فالأمر يحتاج إلى حكمة الحكيم ودراية الفقيه. بيد أن هذه المعاني المقاصدية والمعيارية الذكية ليس من السهل تفعيلها واقعياً إلا بعد أن يحصل الشخص على تدريب كافٍ وتجربة مكثفة. وأمر آخر في غاية الأهمية وهو توسيع المشاركة المجتمعية، إذ إن المفهوم الواسع للرسالة يجعل من «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» مسؤولية اجتماعية، فالناس مع الوعي تتحرك ضمائرهم نحو المعاني الجميلة ويطلبونها، بل ويطالبون بها. فكم هو جميل لو عقدت الرئاسة ملتقى سنوياً متنقلاً بين المناطق حول «الهيئة والمسؤولية الاجتماعية»، يعتمد آلية المشاركة الواسعة للمجتمع بكل أطيافه وتشكلاته. وأختم هذه المقالة بمقترح مفصلي، وهو أن تقوم الرئاسة بتأسيسات تنظيمية وتأسيسات قوانينة، بحيث تبين مهام الهيئة وحقوق منسوبيها والحقوق عليهم. وبحيث تكون هذه التشريعات من إنتاج المختصين بالتشريع والتنظيم، وبعد قراءات مطولة لأنشطة الهيئة وأعمالها، وتشابكاتها النظمية مع الجهات الأخرى، وكذلك أيضاً قراءات معمقة للواقع الاجتماعي ومتغيراته. والرئاسة إن فعلت ذلك فستحسم ملفات كثيرة كانت ولا تزال مفتوحة من الهيئة وضدها. وحين تتم تشريعاتها وتلتزم بقوانينها فسوف تقدم تجربة رائدة في ترسيخ المبادئ الدينية والقيم الاجتماعية. أتمنى على القائمين على الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يفعلوا كل ما من شأنه تشكيل الوجه الحضاري لهذه الرسالة بشراكة المجتمع كله، باعتبارها منه وإليه، وليست منه وعليه. وتمنياتي لوطني بالخير والبركة. [email protected] alduhaim@