كنت في بداية حياتي الوظيفية حين قُيّض لي، في نهاية السبعينات من القرن الماضي، أن أدرّس نص «هجرة الطيور» المستل من رواية «طيور أيلول» لإملي نصرالله، لتلامذة الصف الخامس الابتدائي. وما زلت أذكر أيّ متعة أحدثها ذلك النص، على قِصَره، ذلك أن إملي نصرالله جعلته مرآةً أرتنا فيها وجوهنا، نحن المتحدرّين من قرى مشرورة كالنجوم على أكتاف الجبال، وهل من غاية للأدب بعدُ؟ تلك المتعة أحسّها، اليوم، كلّما أتيح لي أن أحضر درساً يتناول نصّاً لإملي نصرالله، ونصوصها التي تزين الكتب المدرسية في مراحل التعليم المختلفة كثيرة، والحمد لله. وهذه ميزة تُحسب لمناهج التعليم الجديدة لا عليها. ولعل مصدر المتعة تلك يكمن في أن إملي نصرالله تعرف كيف توقظ الحنين إلى الزمن الجميل، تحملنا إلى المطارح الدافئة، وتصنع المرايا نرى فيها وجوهنا الحقيقية من قبل أن تتراكم فوقها طبقات الأقنعة المختلفة. نصف قرن مضى على صدور تلك الرواية الجميلة، راحت فيها الكاتبة تراكم تجاربها الأدبية الغنية في الرواية، والقصة، والمقالة، والسيرة، وأدب الأطفال، فيربو حساب بيدرها على حساب الحقل، ويكتظّ بالغلال الطيبة والرزق الحلال. من الريف انطلقت إملي نصرالله، واتخذت من مفرداته مادّة أوّلية لأدبها، ويمّمت شطر المدينة لتعيش اصطدام الريف بالمدينة وترصد تردّداته على مقياس ذاتها ونصّها، وتطلّعت إلى البعيد البعيد لتعيش تجربة الاغتراب وتكتبها وتمنح أدبها آفاقاً أخرى. غير أنها في هذه الحركة القريبة البعيدة ما برح يستبدّ بها الحنين إلى الريف، رحمها الأولى، فتُعليه على ما عداه. وهي وإن ضاقت ذرعاً بمحدودية تسم الريف مكاناً وآفاقاً وعادات وتقاليد، فإنها تفاخر بقيم ريفية أصيلة تتخطّى المصلحة والمنفعة العابرتين، ولا تزال تعلن أنها «فلاّحة» تنعشها رائحة التراب، وتحييها مفردات الأرض. إن ريادة إملي نصرالله الأدبية واجتراحها الآفاق البعيدة لم تسوّلا لها التنكّر لأصلها، فبقيت أمينة على الجذور، وظلّت سنديانة راسخة في تلك الجورة الغافية جمراً تحت عيني حرمون. حين أصدرتُ «قفص الحرية»، كتابي الثاني الذي اتّخذتُ من الريف لحمته وسداه، شرّفتني إملي نصرالله بكتابة مقدّمته، وأغدقت عليّ من حبّها الكثير، فحطّم الكتاب قضبان القفص وانتزع حرية التجوّل بين القرّاء. ولا تزال تُغدق الحب والجمال بقلمها ولسانها وحضورها، وتُطلق الطيور الجميلة في سماء لبنان والعرب والعالم، فتُترجَم بعض كتبها إلى لغات أخرى. منذ خمسين عاماً تُحلّق «طيور أيلول» في فضاء الأدب، تمرّ سنويّاً فوق جبالنا والأودية ولا تتعب، ولا يزال صيّادو الأدب الجميل يتربّصون بها ويرتكبون جرائم الصيد الحلال ولن يتعبوا. ما زالت «طيور أيلول» تُلوّن سماءنا! وما زلتِ يا ست إملي تُطلقين الطيور الجميلة! وكلّ عام وأنتِ بخير!