ارتبط اسم الأخباري بمن يشتغل بالتاريخ ولما جاء الإسلام ارتبطت تسمية الأخبارية به ولا سيّما من ينقلون الحديث النبوي. وهكذا عرف هذا العلم بعلم الأخبار وعرف نقلته بالرواة والمحدثين أو الأخباريين. وكان قدماء الأخباريين يسمّون بأصحاب الحديث وكانوا موجودين لدى أهل السنّة والشيعة على السواء. ولعلّ أقدم نص يتحدّث عن الأخبارية باعتبارها فرقة قائمة ضمن المذهب الشيعي الإمامي هو ما ذكره الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل»، إذ قال: «والأخبارية فرقة من الإمامية... وهي سلفية... كما عليه سنن السلف». قال أحد أوائل فقهاء الشيعة الشيخ المفيد: «لكن أصحابنا المتعلقين بالأخبار، أصحاب سلامة وبعد ذهن، وقلة فطنة، يمرون على ما سمعوه من الأحاديث، ولا ينظرون في سندها، ولا يفرّقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها، ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منها». كان الأخباريون أو أصحاب الحديث يروون ما نقلوه عن أسلافهم أو قرأوه في كتاب ما أو رواية ما، ويأخذون بظاهر الرواية وصريح لفظها من دون تأويل أو استنباط. يقول مؤسس حوزة النجف وواضع علم الأصول لدى الشيعة الشيخ محمد بن حسن الطوسي عن الأخباريين إنهم «ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ، حتى أن المسألة لو غُيّر لفظها، وعُبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها، وقصر فهمهم عنها». لقد كان بين فقهاء الشيعة في العصور الأولى علماء أخباريون يمثّلون المرحلة البدائية من التفكير الفقهي وهؤلاء هم الذين وصفهم الطوسي بضيق الأفق والاقتصار في البحوث الفقهية على أصول المسائل والانصراف عن التفريع والتوسّع في التطبيق، والذين يقابلهم الأصوليّون الذين يفكرون بذهنية أصولية ويمارسون التفريع الفقهي في نطاق واسع. ويستند المحدث أمين الدين الأسترابادي (ت1033ه)، وهو مؤسس الأخبارية الحديثة لدى الإثني عشرية، لتبرير الرجوع إلى الروايات ورفض الاجتهاد، إذ قال: «وعند قدماء أصحابنا الأخباريين قدّس الله أرواحهم كالشيْخين الأعلمين الصدوقين، والإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني كما صرّح به في أوائل كتاب الكافي، وكما نطق به باب التقليد وباب الرأي والقياس، وباب التمسك بما في الكتب من كتاب الكافي فإنها صريحة في حرمة الاجتهاد، والتقليد، وفي وجوب التمسك بروايات العترة الطاهرة عليهم السلام المسطورة في تلك الكتب المؤلفة بأمرهم». وينفي بعض علماء الإثني عشرية أن يكون أي من المحمدين الثلاثة (الكليني والصدوق والطوسي)، أصحاب الكتب الأربعة، وهي كتب الحديث الأساسية عند الشيعة الموازية للصحاح الستة عن أهل السنة، من الأخباريين بالمعنى الجديد الذي اصطلح عليه الأسترابادي. فالأخباري كما أوضح الأسترابادي، هو من قنع بنقل متون الأخبار واقتصر في الحكم على موارد النصوص ومضامين الآثار، يفتي بمتون الأخبار من غير تعرّض لما لا نص فيه. ويفسّر البعض علماء الشيعة ذلك بأن ذلك قد يعود لعدم اكتمال شروط الاجتهاد في نفس الأخباري القديم أو لكونه في عصر الأئمة وتمكنه من أخذ الأحكام بأسرها من النص والصراحة فلم يقنع بالاجتهاد. وقد عرّف الأسترابادي الأخباري بأنه «الفقيه المستنبط للأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة». أما وجه تسميتهم بالأخباريين فقد نقل عن المرجع الشيعي المتأخر الشيخ مرتضى الأنصاري قوله: «ويعجبني في وجه تسمية هذه الفرقة (الأخباريين) وهو أحد أمرين: الأول: كونهم عالمين بتمام الأقسام من الأخبار، من الصحيح، والحسن، والموثق والضعيف من غير أن يفرّقوا بينها في مقام العمل في قبال المجتهدين. الثاني: أنهم لما أنكروا ثلاثة من الأدلة الأربعة، وخصّوا الدليل بالواحد منها أعني الأخبار فلذلك سمّوا بالاسم المذكور». ويوضح الأسترابادي أن الأخباريين لا ينكرون دليلية القرآن واعتباره مصدراً تشريعياً، «وإنما أرادوا الأخذ به من طريق أهل البيت عليهم السلام لأنهم أدرى بما فيه كما أن آيات القرآن وردت على وجه التعمية والكشف عما يحيط بالقرآن من غموض أو تفصيل لا يتم إلا بالرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام فهم الذين لهم القدرة على القيام بهذه المهمة لأنهم أحد الثقلين، والكتاب هو الثقل الآخر». المحدث الأسترابادي تتمثل بداية الأخبارية الحديثة بظهور المحدث الأسترابادي الذي كما وصفته بعض المصادر بأنه كان أخبارياً صلباً وهو أول من فتح باب الطعن على المجتهدين، إذ يرى الشيخ يوسف البحراني أن الأسترابادي هو أول من قسّم الإمامية إلى أصولية وأخبارية. وقد أكثر الأسترابادي في كتابه «الفوائد المدنية» من التشنيع عليهم ربما نسبتهم إلى تخريب الدين. وقال الشيخ محمد رضا المظفر إن أصحاب «الأخبارية الحديثة» أنكروا الركون إلى العقل والتفكير والتفسير، والاقتصار على التعبد بما جاء في الأخبار الواردة في الكتب الموثوقة في كل شيء والجمود على ظواهرها، والادعاء أن كل تلك الأخبار مقطوعة الصدور على ما جاء فيها من اختلاف، ثم اشتداد الغلو بهم بالقول بعدم الأخذ بظواهر القرآن وحده من دون الرجوع إلى الأخبار الواردة، ثم رفضوا علم الأصول بادعاء أن مبانيه كلها عقلية لا تستند إلى الأخبار. فقد رفضوا الركون إلى العقل في شيء، وأنكروا الاجتهاد، وجواز التقليد. ويُرجع الشيخ حسن بن يوسف بن مكي العاملي كذلك الحركة الأخبارية إلى الأسترابادي ويقول: «بعد وفاة صاحب المعالم (ت1011ه) ظهرت حركة أخبارية ضد علم الأصول زعيمها الميرزا محمد أمين الأسترابادي (ت1033ه) فثار وأتباعه على علم الأصول والاجتهاد قاصدين شلّ حركة نموّه وترك العمل بقواعده مكتفين بالعمل بالأخبار والأحاديث في استنباط الأحكام الشرعية، وقد اشتدت حركتهم في هذه المعارضة في أواخر القرن الحادي عشر (الهجري) إلى أوائل القرن الثاني عشر، وبهذه المعارضة حصل الانقسام في صف علمائنا فاتخذت الأخبارية مذهباً مقابل الأصوليين». أمّا المرحلة الثالثة لمدرسة الأخباريين فهي تبدأ مع المحدث الشيخ يوسف البحراني (توفي 1186ه) والذي مثّل دور الاعتدال بسلوكه طريقاً وسطاً بين الاتجاهين المتصارعين الأخباري والأصولي، محاولاً تخفيف تطرف آراء الأسترابادي وأتباعه والحدّ من حملتهم الجارحة ضد الأصوليين ثم محاولة تقليص الخلاف بين الجانبين. ويتحدث البحراني عن هذه المرحلة قائلاً: «وقد كنت في أول الأمر ممن ينتصر لمذهب الأخباريين، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين، إلا أن الذي ظهر لي بعد إعطاء التأمل حقه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا هو إغماض النظر عن هذا الباب، وإرخاء الستر دونه والحجاب». أسباب الخلاف بين الأصوليين والأخباريين أحصى الشيخ عبدالله بن صالح السماهيجي (توفي 1135ه) هذه الفوارق بثلاثة وأربعين فارقاً، فيما حددها الشيخ يوسف البحراني بثماني مسائل. أما الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت1228ه) فقد ذهب إلى أن عدد هذه الفوارق ثمانين فرقاً. أما أبرز مسائل الخلاف بين الأخباريين والأصوليين فهي الآتية: أولاً: اعتبار الأخبارييين أن العمل بالقواعد الأصولية يؤدي إلى ترك العمل بالنصوص الشرعية. يعتبر الأسترابادي أنّ أهل السنّة كانوا سباقين إلى التصنيف في علم الأصول وأن المتأخرين من علماء الإثني عشرية قد قلّدوهم في ذلك بسبب تعييرهم لهم على عدم اشتغالهم بهذا العلم، إذ غفلوا عن نهي الأئمة عن ذلك، على حد زعمه. ويذهب البحراني إلى أن دليل الإجماع قد سار عليه الإمامية مقتفين فيه أهل السنّة، وذلك لاقتفائهم لهم في علم أصول الفقه، وهذه مسألة من أمهات مسائله. ثانياً: يقول الأخباريون إن أصحاب الأئمة وإلى زمان الكليني والصدوق إنما كان عملهم بالأخبار الواردة عن الرسول وآل بيته. ويتضح أن رفض الأخباريين لعلم الأصول كان مردّه أنه في نظرهم يؤدي إلى نبذ الأدلة الشرعية أو السمعية لأخذ الأحكام الشرعية مما يسمى بالأدلة العقلية التي يعتبرون أن أهل السنّة هم أول من ابتدعها. ولعل الذي ساهم في ترسيخ الإطار السني لعلم الأصول في أذهان الأخباريين هو أن الفقيه الشيعي المتقدم إبن الجنيد كان يتفق مع أكثر المذاهب السنية في القول بالقياس. ثالثاً: استغل الأسترابادي حداثة علم الأصول للهجوم عليه وإثارة أتباع الإمامية ضده، وذلك لأن علم الأصول قد نشأ عند الشيعة بعد غيبة الإمام الثاني عشر لبروز الحاجة إليه. واعتبر الأخباريون أنه ما دام أصحاب الأئمة وفقهاء مدرستهم قد مضوا من دون علم أصول ولم يكونوا في حاجة إليه في فقههم، فلا ضرورة للتورط في ما لم يتورطوا فيه، ولا معنى للقول بتوقف الاستنباط والفقه على علم الأصول. رابعاً: آثار الدور الذي يلعبه العقل في علم الأصول الأخباريين ضد هذا العلم. ولعل أبرز المسائل الخلافية بين الأخباريين والأصوليين هي: الخلاف على حجية ظواهر الكتاب، والخلاف على حجية الإجماع، والخلاف على حجية دليل العقل، والخلاف على حجية الاستصحاب، والخلاف على حجية البراءة الشرعية. وكان تطوّر البحث الأصولي لدى الإثني عشرية قد استمر إلى أواخر القرن العاشر هجري حيث كان المثل الأساسي لهذا الاتجاه الحسن بن زين الدين العاملي (توفي 1011ه) صاحب كتاب «معالم الأصول». وفي هذه المرحلة برز أيضاً الشيخ محمد البهائي العاملي(توفي 1031ه) الذي ألف كتاب «زبدة الأصول». وعلى الرغم من وقوف الأخباريين في وجه الأصوليين في هذه الفترة فإنهم واصلوا مسيرتهم الفكرية وتصدّوا للجمود الفكري المتمثل في الحركة الأخبارية الحديثة، فظهر أيضاً لون جديد في البحث الأصولي امتاز بطابع فلسفي أمدّ الفكر الأصولي بطاقة جديدة ممثلاً بالفقيه الأصولي عبد الله التوني (ت1071ه)، والأصولي محمد بن الحسن الشيرواني (ت1098ه)، والسيد حسين الخوانساري (ت1099ه)، وصدر الدين القُمّي (ت1160ه)، وهو أستاذ الشيخ محمد باقر بن محمد الوحيد البهبهاني (1118-1206ه) الذي لعب دوراً كبيراً في الحفاظ على الاتجاه الأصولي ومقاومة الاتجاه الأخباري وتراجعه. وكان البهبهاني أحد أعلام القرن الثاني عشر في الفكر الأصولي حيث كانت كربلاء نقطة الانبثاق لهذا التيار في معركته مع الأخبارية الحديثة. ولولا البهبهاني لكان الاتجاه الأخباري مسيطراً على البلاد ومنتشراً، فقد شنّ على الأخبارية هجوماً عنيفاً بمؤلفاته ومحاججاته الشفوية الحادة مع علمائها. وعلى يديه كان ابتداء تطوّر علم الأصول الحديث، وخروجه من جموده الذي ألفه لقرون عدة، وانكشفت في عصره النزعة الأخبارية على نفسها ولم تستطع أن تثبت أمام قوة حجته. يصف الفقيه الإيراني الشيخ مرتضى مطهري هذه الظاهرة الأخبارية في أوائل القرن الثاني عشر الهجري بأنها كانت أشدّ سطحية وجموداً من المذهب الظاهري، وأنها «فاجعة أليمة في عالم التشيّع لم يزل بعض آثارها باقياً حتى الآن ويسبّب التوقف والجمود في المجتمع الإسلامي الشيعي». ولعل آثار هذا الجمود لا تزال مستشرية على رغم سيادة مبدأ الاجتهاد وكثرة المجتهدين. * كاتب لبناني