لا جديد لدى القيادة الفلسطينية بعد 26 كانون الثاني (يناير)، أي بعد انتهاء المهلة المحدّدة لاستكشاف موقف إسرائيل التفاوضي، فما بعده هو كما قبله، تماماً مثلما حصل في مواعيد واستحقاقات عديدة سابقة! وفي الواقع فإنّ القيادة الفلسطينية وبمعزل عن ادّعاءاتها، لا تملك بدائل، وهي لم تؤهّل نفسها لذلك، ومشكلة هذه القيادة، أيضاً، لا تكمن في مجرّد ضعف إمكاناتها إزاء إسرائيل، وإنما في حصر خياراتها في العملية التفاوضية، برغم أنها عملية مجحفة وجزئيّة ومهينة، كما تكمن في تبلور طبقة سياسية، باتت مهيمنة على المجال العام، ترى مصالحها في استمرار هذه العملية، وهي طبقة تعمل على إشاعة مصطلحات وعلاقات وسلوكيات تتسق مع الواقع القائم، ولو كان على شكل سلطة تحت الاحتلال، وعلى حساب الشعب وحقوقه. لكنّ المشكلة الأكبر لهذه القيادة تكمن في استقالتها من دورها، وهو ما يظهر في عجزها عن ترتيب البيت الفلسطيني، وعدم حسمها في المواقف التي أخذتها على نفسها، كما في ضيق أفقها السياسي، والذي يتجلّى في عدم التفكير في الخيارات والبدائل عندها، وهو الأمر المسكوت عنه في السياسة الفلسطينية. إن تصحيح هذا الوضع يفترض تجديد الفلسطينيين لمعنى مشروعهم الوطني، بما يطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين والحركة الوطنية الفلسطينية، وهو تطابق قد يجد تمثّلاته في مشروع الدولة الواحدة (الديموقراطية العلمانية)، الذي يمكن أن يشكّل حلاً نهائياً وشاملاً وعادلاً (ولو نسبياً) لمجمل تجلّيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أكثر من غيره من الحلول. معلوم أن هذا الخيار لم يلقَ الاهتمام المناسب في الثقافة السياسية الفصائلية المهيمنة، لضعف الاجتهاد السياسي فيها، وبحكم هيمنة خيار الدولة المستقلة، بل إن هذا الخيار تعرض لنوع من الحصار والإزاحة، بادعاءات سطحية، ضمنها أنه يستمدّ مشروعيته فقط من فشل خيار الاستقلال في دولة في الضفة والقطاع، وأنه يطرح كبديل عن خيار الدولة المستقلّة، وأن إسرائيل لا يمكن أن تسلّم به. بداية، لا شكّ في أن تعثّر خيار الدولة المستقلة، المطروح منذ أربعة عقود (1974)، وتعثّّر اتفاق الحلّ الانتقالي (أوسلو 1993)، يضفيان المشروعية على خيارات أخرى. مع ذلك فإن خيار الدولة الواحدة يستمد مشروعيته من كونه الخيار الوحيد، وربما الأمثل، الذي يجاوب على مختلف مشكلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (مصير اللاجئين والقدس والحدود والترتيبات الأمنية). هكذا فإن طرح هذا الخيار ليست له صلة بنجاح أو عدم نجاح خيار الدولة المستقلة، فحتى لو أقيمت دولة كهذه، واعتبر ذلك بمثابة حل نهائي للصراع، فماذا بشأن حقوق اللاجئين؟ وماذا بشأن تعيين مفهوم الشعب؟ وماذا عن فلسطينيي 1948 واللاجئين والفلسطينيين المواطنين في الأردن؟ فهل سيبقى كل هؤلاء في إطار الشعب الفلسطيني؟ أم أن الواقع الناشئ مع الدولة سيؤدّي إلى تقويض وحدة هذا الشعب، بعد أن أدّى إلى تقويض كل من مفهومي الأرض والقضية الفلسطينيين؟ كذلك فإن خيار الدولة الواحدة الديموقراطية العلمانية هو المشروع الوحيد الذي يخاطب الإسرائيليين ويتمثّل مشكلتهم، وفق رؤية إنسانية وديموقراطية وعلمانية، ما قد يفتح على تفاعلات فلسطينية إسرائيلية، وبين الإسرائيليين المنقسمين على ذاتهم بين علمانيين ومتديّنين، وشرقيين وغربيين ويسار ويمين. وما ينبغي الانتباه إليه جيداً هو أن خيار الدولة الواحدة الديموقراطية العلمانية بات في هذه المرحلة يستمد مشروعيته أيضاً من صعود دور المجتمعات المدنية على الصعيد الدولي وانتشار قيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، ومن إمكان قيام دولة مواطنين في البلدان العربية، المحمولة على رياح الثورات الشعبية، والتي يتوقّّع أن تحرم إسرائيل مكانتها التي كانت تزعمها باعتبارها الديموقراطية الوحيدة في هذه المنطقة، وإظهارها على حقيقتها باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية ودينية. أيضاً لا ينبغي اعتبار خيار الدولة الواحدة بديلاً لخيار الدولة المستقلة، ولا نقيضاً له، لأنه بطبيعته خيار مستقبلي، ويحتاج إلى تطوّرات عند المجتمعين المعنيّين، وإلى توفّر المعطيات الدولية والعربية الملائمة. وتنبثق عن ذلك ثلاثة مسائل، الأولى، وتتعلّق بضرورة فتح أفق الحلول والخيارات الفلسطينية، وعدم إغلاقها إزاء التطورات المستقبلية. والثانية، وتتعلّق في عدم الانحصار في إطار خيار واحد ووحيد. والثالثة، تتعلّق بضرورة ربط كل الخيارات برؤية مستقبلية للحل النهائي، الذي يتأسس على الحقيقة والعدالة ومصالح المستقبل. يستنتج من ذلك أن أصحاب خيار «الدولة المستقلة» معنيون بوضع حدّ للرهان على خيار واحد له من العمر قرابة أربعة عقود، ومطالبون برؤية التكامل بين إمكان قيام دولة مستقلة وإمكان استمرار النضال بالوسائل المناسبة، لفتح أفق لوحدة الأرض والشعب الفلسطينيين. أما في شأن اعتبار خيار الدولة الواحدة مستحيلاً، سواء جاء على شكل دولة مواطنين أو دولة ثنائية القومية أو دولة فدرالية، بالنظر إلى أن إسرائيل سترفضه، لا سيما إنها رفضت مجرّد وقف جزئي للاستيطان، ودولة على 22 بالمئة من ارض فلسطين، وبإصرارها على الاعتراف بها كدولة يهودية، فهذا كلام بديهي. والردّ على ذلك يكمن ببساطة في أن هذا الخيار لا يطرح للتفاوض، وهو ليس للتطبيق دفعة واحدة، وإنما هو كناية عن رؤية سياسية مستقبلية يمكن أن تنبثق من التطورات التي يمكن أن تحصل في المشرق العربي، على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومثلاً، فمن الذي قال إن الكيانات السياسية في هذه المنطقة هي كيانات نهائية؟ أو أن إسرائيل ستظلّ تعاند مسارات العولمة والاندماج (أو حتى التفكّك) في منطقة الشرق الأوسط إلى الأبد؟ ثم هل يمكن توقّع استمرار الدولة الإسرائيلية أو المجتمع الإسرائيلي على شكل جزيرة معزولة أو في «غيتو» في المنطقة، وكذا وجود مجرد دولة للفلسطينيين في الضفة والقطاع؟ وبالمقارنة هل ثمة كيانات سياسية أبدية؟ أليس ثمة عبرة من مآلات يوغوسلافيا والإمبراطورية السوفياتية ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا؟ على ذلك فإن خيار الدولة الواحدة (الديموقراطية العلمانية) هو حلّ مستقبلي أو بمثابة مسار قد يأتي، على الأرجح، على شكل سلسلة متواصلة ومتدرّجة من الحلول، والصراعات والمفاوضات، لحلّ مختلف مظاهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. هكذا ففي إطار هذه الرؤية فقط، أي الرؤية المتعلّقة بالدولة الواحدة، يمكن تجديد معنى المشروع الوطني الفلسطيني، باعتباره لا يختصر القضية في مجرّد الصراع على جزء من أرض، وإنما باعتباره مشروعاً تحرّرياً وديموقراطياً، يستهدف البشر، ويسير مع حركة التاريخ، باعتباره المشروع النقيض لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية. هذا هو المشروع الذي ينبغي البناء عليه للمطابقة بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين، والذي يفترض استعادة الحركة الوطنية لطابعها كحركة تحرّر وطني، باعتبارهما شرطين لاستنهاض الحالة الشعبية الفلسطينية. هذا بالطبع يفترض، أساساً، القطع مع الثقافة السياسية والسلوكيات وأشكال العمل السابقة، وضمنها العملية التفاوضية العبثية وعلاقات السلطة، التي أضرّت بصدقيّة قضية الفلسطينيين وأدت إلى تدهور حركتهم الوطنية وبدّدت تضحياتهم. * كاتب فلسطيني