ما الذي يدعو روسيا إلى كل هذا الاستبسال من أجل إنقاذ النظام السوري؟ هل تستحق التسهيلات التي يحصل عليها أسطولهم في ميناء طرطوس إحراق سفنهم مع الشعوب العربية القادمة إلى الحكم في هذا الزمن العربي الجديد؟ أم أنها بضعة ملايين من الدولارات يجنونها من صفقات أسلحة مع الجيش السوري؟ لا يعقل، فالتحليل السليم يقول إن علاقة مستقبلية مع العرب أفضل وذات عائد أجدى. هل لأنهم لا يضمنون أن أي حكومة قادمة لن تجدد تلك التسهيلات في طرطوس المشار إليها؟ بالطبع لا يستطيع أحد أن يضمن ذلك حتى لو وعدتهم المعارضة بأنها ستنظر باهتمام إلى مصالحهم في المنطقة، إذا ساعدتهم أو على الأقل وقفت متفرجة حتى يحصلوا على حريتهم المستحقة، إذ لا أحد يعرف بما في ذلك المعارضة طبيعة واتجاه النظام الذي سيختاره الشعب و»الظروف» . هذا «المجهول» يراه أيضاً ويخشاه الطرف الحاضر الغائب في الأزمة السورية، إسرائيل التي يعجز استراتيجيوها عن توقع كيف سيتعامل النظام السوري معها ومع أخطر قضايا الطرفين، الجولان المحتل، فهل لها هي الأخرى دور ما في تأخير سقوط النظام ويوفر تفسيراً آخر لهذا الاستبسال الروسي الغريب؟ كل ذلك وغيره يفسر أهمية التحول الحاصل في سورية وأنه ليس مجرد قضية محلية تعني متظاهرين يرومون الحرية، وإنما هو تحول إقليمي هائل، يرقى إلى تسونامي يصيب المنطقة المحيطة بسورية، والمنطقة هنا هي الشرق الأوسط المتفق عليه من إيران شرقاً إلى تركيا شمالاً إلى عالم سورية العربي المحيط بها والممتد إلى المملكة العربية السعودية والخليج. سورية غير مصر، فهذه على أهميتها وحجمها، لم يؤدِّ تحولها الهائل إلى زلزال جيو سياسي، فهي في كل أزمنتها السابقة للثورة لم تغير جلدها وطبيعتها ومكانها السياسي والجغرافي، وكذلك بقية دول «الربيع العربي». لكن سورية فعلت ذلك داخلياً وإقليمياً منذ انقلاب المؤسس لأسرتها الحاكمة وزير الدفاع حافظ الأسد عام 1970، كان أول علوي يصل إلى حكم سورية السنية العربية، لم يكتفِ بذلك، وإنما أتى بطائفته إلى الحكم وميزها، ودفعها إلى مفاصل السلطة الأمنية وحقق لها امتيازات اقتصادية، ليس شراكة وإنما تسلط، ثم بعد الثورة الإسلامية في إيران ذات الهوى والتمدد الطائفي، تمدد إليها وسمح لها بالتمدد في بلاد لم تكن يوماًً ضمن دائرة نفوذها متعدية على مصالح جيرانها ومعطلة لها. غيّر شخصية سورية في شكل لم يحصل مطلقاً منذ أن تشكلت بملامحها الإسلامية القوية حاضنة للخلافة العربية الإسلامية وإقليماً أساسياً في المشرق العربي، مكملة لجزيرة العرب بداية، ثم لمصر في مرحلة ثانية، واختتمتها بعلاقة وثيقة مع تركيا انتهت بسقوط الخلافة وظهور عالم الشرق الأوسط الجديد الذي ما كاد يتشكل حتى اختطفت منه طائفياً قسراً وجوراً. لننظر إلى خريطة المنطقة قبل آذار (مارس) 2011 وانتفاضة درعا، ما المفقود منها؟ إنها سورية. شعرنا بذلك الفراغ في نكسة 1967 وسقوط الجولان السريع والمدوي، ولكن أخفى حجم الكارثة خسارة القدس وكل فلسطين وسيناء، وغطى عليها وجود شريك لا يدري ما حوله، وهو عبدالناصر الزعيم القومي العربي، المعقودة عليه آمال لم تتحقق، ثم بدا الفراغ أوضح يوم وقفت سورية مع إيران، في حرب صدام حسين عليها، في مغامرته الكارثية الأولى، وفي حروب لبنان، ثم تجلى ذلك الفراغ يوم اغتيل الحريري، ولكن كنا دوماً نتجاهل وجود تلك «الحفرة السوداء» الغارقة في المجهول، إذ لم يكن من اللائق عند السياسي الحديث أن يفكر بنفسٍ طائفي. اليوم، والشعب السوري ينتفض من أجل حريته، تبدو الحالة الطائفية جلية واضحة .. وقبيحة، تتجلى في القليل الباقي مع النظام رغم معاندته للتاريخ ولكل قيم الحرية. فما الذي سيتغير عندما تعود سورية المفقودة؟ لننظر إلى الخريطة في شكل مختلف هذه المرة، لنتخيلها وكأن المنطقة منظومة اقتصادية تريد أن تنطلق وتعمل وتنتج وتتناغم، كل أسباب قوتها موجودة. السعودي يريد أن يعمل ويمتد شمالاً حتى تركيا، بصناعة تجارة وخدمات، وسياسة إيجابية تخدم هذا التوجه، طرق سريعة وسكك حديدية، سوق واحدة وحرية تنقل، ومن حول السعودية وتركيا بقية اقتصاديات المنطقة. انظروا إلى خريطة سورية التي بتنا نراها كل ليلة في نشرات الأخبار بينما المذيع يستعرض مدن الانتفاضة من الجنوب إلى الشمال، درعا، دمشق، حمص، حماة، إدلب، حلب. ارسم خطاً يربطها، إنه طريق رسم منذ آلاف السنين، طريق التجارة العالمي الممتد من جزيرة العرب حيث المملكة واليمن، عبر الأردن فسورية وينتهي هناك في تركيا. طريق استراتيجي كان يوماً مشروعاً نهضوياً إسلامياً سمي «سكة حديد الحجاز» ولكنه تأخر إلى زمن أفول الدولة العثمانية، عولمة ذلك الزمن، فلم يعمر واقتلعت قضبانه برمزية هائلة وبإخراج درامي اختلط فيه حق بباطل وآمال ونكسات حتى أفضى إلى زمن الضعف والتردي العربي. عودة سورية بروحها الحقيقية إلى مكانها الطبيعي، لتملأ الفراغ الذي تشكل نتيجة خطأ تاريخي لا بد أن يصحح هو ولادة ذلك الحلم العربي الإسلامي، شراكة وقوة ونهضة اقتصادية وثقافية جديدة، نهضة المشرق العربي مثلما حلم رجالات الشرق في بداية القرن، استئناف لمشروع اختطف... متفائل أنا؟ نعم فمن هذا التفاؤل يمكن أن نستمد القوة للوقوف أمام القوى التي تريد أن تعاند التاريخ في روسياوإيران وما تبقى منها، متشبث بسلطة ولو بالقتل، في سورية المثخنة بالجراح والتي ستكمل بعد شهر عاماً طويلاً.. طويلاً لن ينساه شعبها. * كاتب سعودي. [email protected] Twitter | @JKhashoggi