إذا كان فردريك انغلز، الفيلسوف الألماني وشريك مواطنه كارل ماركس في أفكاره وكتاباته، قد قال مرة عن مواطنه لودفيغ فيورباخ «لقد كنا جميعاً في وقت من الأوقات فيورباخيين»، فإنه إنما كان يعبّر في هذا القول عن الدين الذي لصاحب كتابي «جوهر المسيحية» و «ماهية الدين» في عنق الفكر الحديث. لكنه كان في الوقت نفسه يعبّر، عن فكرة أساسية مفادها ان فيورباخ «لم يكن اكثر من معبر» بالنسبة إلى تلك الحداثة، من الإنجازات التي حققها هيغل، الى بزوغ فكر العصور المقبلة. ولئن كان فيورباخ قد أطلق على واحد من آخر كتبه ما يشي بأنه يحاول أن يكون اكثر من معبر، ليصل الى رسم سياسة فكرية للزمن المقبل، فإن المعضلة، بالنسبة الى فكر فيورباخ كمنت في ان الذين أتوا من بعده، وإن كانوا مثله، «يساريين هيغليين»، آثروا دائماً تخطّي هذا الكتاب، على أهميته، لأسباب يمكن تلمّسها، حقاً، في ثنايا ذلك النص الشهير الذي كتبه واضعاً أسس المادية التاريخية (ماركس وإنغلز) بعنوان «أطروحات حول فيورباخ» الذي يربط عادة بكتاب «ضد دوهرنغ». والحقيقة ان هذا النص، اكثر مما كان نقداً مبطناً لفيورباخ وأفكاره، كان نوعاً من القطيعة بالنسبة الى ماركس وإنغلز مع ماضيهما الذي كان فكر فيورباخ يهيمن عليه. ويتعيّن ألا يفوتنا هنا ان في هذه الحقيقة يكمن جوهر العبارة التي أوردناها أعلاه والتي قالها انغلز يوماً بأمانة علمية. ذلك ان فيورباخ كان، عن حق، حلقة الوصل بين الدور الذي كان يعزى الى الفلسفة كفعل تأمّل وتفكير نظري، وبين دورها الجديد كفعل عمليّ وأداة لتغيير العالم. وكان هذا ما حدسه فيورباخ، على أية حال، حين وصف جوهر الدين بمواصفات تجعل منه أشبه بفلسفة علمية مقترحاً في شكل موارب في الوقت نفسه ان الفلسفة يمكنها، إذ تتحول الى فعل، أن تشابه الدين في وظيفتها. وعلى هذا، أفلا يمكننا ان نقول ان فيورباخ كان أول من طالب، في العصور الحديثة، بعودة الفلسفة الى ما كانت عليه ايام الإغريق: أداة عملية لتغيير العالم؟ هذا، على الأقل، ما يمكننا ان نجده في كتاب «مبادئ فلسفة المستقبل» ذلك الكتاب الذي يكاد يكون اقل كتب فيورباخ شهرة، ومع هذا يمكن اليوم، امام الأزمة الجوهرية بل الوجودية التي يعيشها الفكر الماركسي المستند جزئياً الى أفكار مستقاة من فيورباخ نفسه، ان يستعاد ويعاد إليه اعتباره. نشر فيورباخ كتابه «مبادئ فلسفة المستقبل» في عام 1843، حين كان في التاسعة والثلاثين من عمره، وكان أنجز كتابة اهم نصوصه، مثل «في نقد الفلسفة الهيغلية» (1839) و«جوهر المسيحية» (1841) و«الموضوعات حول إصلاح الفلسفة» (1842). وفي هذا الكتاب الذي لم يكتب فيورباخ من بعده أعمالاً كبيرة اخرى، حاول المؤلف ان يطوّر جملة أفكار كان سبق ان عبّر عنها في كتاب سابق له عنوانه «أفكار حول الموت والخلود»، وكذلك في «جوهر المسيحية»، لا سيما في ما يتعلق بما كان يراه من غياب اي توافق بين مفهوم الواقع وجوهر الفردية التي كانت، في نظره، تمثل جوهر الطبيعة نفسها. بالنسبة الى فيورباخ الواقع الحقيقي هنا هو الطبيعة الحساسة، التي كانت وستظل دائماً ذات جوهر فردي. وهو يركز هنا، في الرقم 43 من «المبادئ» على أن الناس «يبدأون برؤية الأمور كما تبدو لهم فقط، وليس كما هي في حقيقتها. بالرؤية لا تكون الأمور هي نفسها، بل فقط الفكرة التي يحوزها الناس عنها، ويبدأون بأن يسقطوا عليها جوهرهم الخاص، من دون تمييز الشيء عن صورته». ومن هنا في سياق استعادة مذهبه الحسي، يورد فيورباخ في المبدأ الرقم 25 فكرة تبدو اساسية بالنسبة إليه، وهي «ان البرهنة على أن شيئاً ما موجود، معناها فقط ان هذا الشيء ليس شيئاً مفكراً فقط. غير ان هذا البرهان لا يمكن استنباطه من الفكر ذاته. فلكي يأتي الوجود لينضاف الى موضوع للفكر، ينبغي ان يكون ثمة شيء ما مختلف عن الفكر قد أتى لينضاف الى الفكر نفسه». فما هو هذا الشيء؟ ربما يمكننا العثور على هذا الشيء في ثنايا نص المبدأ الرقم 51: «لكي تتفلسف ينبغي ألا تفصل الفيلسوف فيك عن الإنسان، بل أن تكون إنساناً يفكر وحسب. لا تفكر بصفتك مفكراً، أي ضمن إمكان منتزع من كلية الكائن البشري الحقيقي ومعزول لذاته. فكر بصفتك كائناً حياً وحقيقياً، معرّضاً لأمواج محيط العالم القادرة على إحيائك وعلى مدّك بنسغ الشباب. لا تفكر في فراغ التجريد وكأنك واحد معزول، وكأنك عاهل مطلق، لا مبال نفى نفسه خارج العالم... فكر هكذا فيمكنك ان تضمن لأفكارك ان تكون اساساً لوحدة الفكر والكينونة... لا يكون العالم مفتوحاً على مصاريعه إلا إزاء عقل متفتح والحواس وحدها هي نوافذ العقل...». إذاً، ما في هذه النصوص إنما هو، أولاً وأخيراً، دعوة للإنسان لكي يكون... إنساناً في كليته، وفيورباخ يعبّر عن هذه الكلية في كل وضوح: «إنني كائن حقيقي وحساس وجسدي يشكل جزءاً من كينونتي، بل انه، في كليته، كينونتي نفسها»، غير ان فيورباخ اذ يقول هذا يستنكف عن خوض المادية الحسية حتى النهاية. لأنه في الوقت نفسه لا يعتبر القوة خاصية تقتصر على إعادة نفسها، بل إنه هنا يقر بالوصول الى نوع من المثالية التي تقرّبه من جوهر الهيغلية التي قد يبدو لوهلة انه انفصل عنها، إذ نراه يقول تالياً ان الكينونة ان هي سر من اسرار الحدس والشعور، من أسرار الحب، والفلسفة الجديدة تستند في نظره الى «حقيقة الحب وحقيقة الشعور»، ففي الحب وفي الشعور في شكل عام يتعرف كل واحد الى حقيقة الفلسفة الجديدة. والفلسفة الجديدة، منظوراً إليها في علاقتها مع مبدئها، ليست شيئاً آخر غير جوهر الشعور المرفوع الى مستوى الوعي: وهي لا تفعل اكثر من انها تؤكد، في العقل ومعه، ما يتعرف إليه كل انسان في فؤاده (شرط ان يكون انساناً حقيقياً). «إنها الفؤاد مرفوعاً الى مستوى التفاهم. فالفؤاد لا يريد مواضيع وكائنات مجردة وميتافيزيقية أو لاهوتية. بل هو يريد مواضيع وكائنات حقيقية محسوسة» (المبدأ 34). وهذا التأكيد يعود إليه المفكر في المبدأ التالي الذي يختتمه قائلاً: «... وتماماً كما ان الحب هو المعيار الموضوعي للكينونة، كذلك هو معيارها الذاتي كما هو معيار الحقيقة ومعيار الواقع. حين لا يكون هناك حب لا يكون ثمة حقيقة. ومن يحب شيئاً يكون وحده شيئاً ما. ألا تكون وألا تحب هما الشيء نفسه. فبقدر ما نوجد نحب. والعكس صحيح». إن هذه الأفكار هي، طبعاً، ما جعل مؤرخي الفلسفة يقولون دائماً إن فلسفة فيورباخ، على علاّتها، تكمن اهميتها الأساسية والكبرى في ان «الإنسان هو المبدأ الأساس فيها. لأن القانون الأسمى لعالم الإنسان يتطلع الى خير الإنسان بالذات»، ما يعني ان فيورباخ وضع المبدأ الأنثروبولوجي في تناقض تام مع المبدأ الميتافيزيقي القديم. ولعل هذا ما أثار دائماً حماسة المفكرين الشبان لأفكار فيورباخ، قبل ان يتقدم بهم العمر ويجدوا انفسهم مدفوعين بالتدريج بعيداً من ماديته الحسية. وهنا يكمن، كما ندرك، جوهر عبارة انغلز: «لقد كنا جميعاً في وقت من الأوقات فيورباخيين». ولد لودفيغ فيورباخ في لاندشوت (بافاريا) في ألمانيا عام 1804 ومات عام 1872 في نورمبورغ. وفيورباخ، كان ابن رجل قانون، وهو درس اللاهوت باكراً، كما درس الفلسفة في برلين متتلمذاً على هيغل متأثراً بالجانب التقدمي واليساري في أفكار هذا الفيلسوف الكبير. في عام 1830 وبعدما نشر، غفلاً من التوقيع، واحداً من كتبه المبكرة «خواطر حول الموت والخلود» طرد من التعليم الجامعي، فعزل نفسه في الريف حيث انصرف الى تأليف الكثير من كتبه الشهيرة، التي ظل يتابع كتابتها ونشرها حتى أواخر سنوات الستين، وكان من آخرها «أنساب الآلهة» الذي تسبب فشله لدى مستقبليه في أزمة ذهنية وتدهور أصابا فيورباخ. وهو قضى سنواته الأخيرة منعزلاً يائساً على رغم ان أفكاره كانت بدأت تلقى صدى في اذهان الشباب، تأسيساً لما سيسمى بالتيار التالي من اليسار الهيغلي في ذلك الوقت بالذات. [email protected]