قبل عشرة شهور، أجمع مجلس الأمن على إجازة توسل «كل الاجراءات الضرورية» لحماية المدنيين من مجزرة محتملة ترتكبها قوات العقيد معمر القذافي في ليبيا. ولو أصدر المجلس مثل هذا القرار في التسعينات لأنقذ أرواح 8 آلاف قتيل سقطوا في سربرنيتشا و800 ألف قتيل في رواندا. واحتفيتُ بقرار التدخل في ليبيا على أنه بداية عصر غلبة مبدأ «مسؤولية الحماية» الذي أقر في 2005. ويرمي المبدأ هذا الى القطع مع قرون من اعتبار السيادة بمثابة اجازة للقتل، ويلزم الحكومات بحماية شعوبها من الابادة العرقية وغيرها من الجرائم الجماعية. وإذا فشلت الدول في أداء واجب الحماية، آلت مسؤولية التدخل الى المجتمع الدولي. واليوم، وبعد 10 شهور، لا يحرك مجلس الامن ساكناً ازاء حوادث سورية، على رغم ارتفاع عدد الضحايا الى أكثر من 5 آلاف قتيل. والاجماع متعذر على خطوات كبيرة مثل توسل القوة العسكرية أو على خطوات صغيرة مثل فرض عقوبات وحظر بيع الاسلحة لسورية، أو الاحالة على المحكمة الجنائية الدولية. والتردد مرده الى جوانب الازمة السورية الجيو- سياسية المتنوعة: منطقة مضطربة على شفير الانفجار على وقع الشقاق الطائفي والانقسام، عدم اجماع جامعة الدول العربية على استخدام القوة، مؤازرة روسيا نظام الأسد، وقوة الجيش السوري. لكن أسباب التردد لا تقتصر على ما تقدم. فإجماع مجلس الامن على شروط (في أي ظروف؟ وكيف؟) توسل مبدأ الحماية، وهو كان متماسكاً في شباط (فبراير) وآذار (مارس) 2011، تبدد نتيجة تعاظم إدانة كيفية «تطبيق» حملة الناتو التفويض الاممي ل «حماية المدنيين والمناطق المدنية المحاصرة». وقادت دول «البريكس» (البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب افريقيا) الحملة هذه. ولم تندد بأول مرحلة من الرد العسكري، أي تدمير بنية سلاح الجو الليبي التحتية والهجمات الجوية على القوات البرية المتوجهة الى بنغازي. ووجهت الدول هذه سهام النقد الى المرحلة الثانية من الحملة العسكرية، حين تبين أن الدول الدائمة العضوية الثلاث في مجلس الامن، بريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة، ترمي الى تغيير النظام في ليبيا. وأُخذ على القوى المتدخلة في ليبيا رفضها عروض وقف النار التي ربما كانت جدية ويعتد بها، وقصف شخصيات هاربة على رغم عدم تهديدها المدنيين تهديداً مباشراً، وضرب مواقع لا أهمية عسكرية لها، على غرار المجمع الذي قتل فيه اقارب القذافي. وسلّحت القوى الغربية ودول عربية مثل قطر الثوار الليبيين في ما تحوّل حرباً أهلية، وتجاهلت حظر تزويدهم بالسلاح. وأجوبة الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا على مثل هذه الاتهامات سريعة وكثيرة، منها: تقتضي حمايةُ المدنيين، في مناطق مثل طرابلس يحكم القذافي قبضته عليها، اطاحةَ النظام؛ الانحياز الى طرف في الحرب الأهلية مرده الى حمل النظام المدنيين على حمل السلاح للدفاع عن النفس؛ العمليات العسكرية لا تدار ادارة مفصلة من بعد ألف ميل بواسطة «مفك براغي». وحملة عسكرية محدودة كانت لتفضي الى تفاقم النزاع في ليبيا واستمراره وقتاً طويلاً والى تعاظم عدد الضحايا المدنيين. ومن العسير حيازة مثل هذا التدخل الطويل الامد التأييد السياسي في اوروبا واميركا. والمسوغات البريطانية والاميركية والفرنسية هذه لا يستهان بأهميتها. لكن باريس وواشنطن ولندن عارضت مناقشة المسوغات هذه في مجلس الامن، ولم تزود اعضاء المجلس معلومات تخولهم تقويم الاوضاع. وربما تجافي الحق مزاعم بعض دول مجموعة «البريكس» إمكان الإجماع على تغيير النظام لو أديرت العملية إدارة مختلفة. لكن تعنت القوى الغربية ورفضها مناقشة اجراءات التدخل هما بمثابة اهانة لدول «بريكس». والإجماع على تدخل عسكري جديد هو رهن اندمال جروح الاهانة هذه. والحق أن ثمة أملاً جديداً يلوح. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وزعت البرازيل مشروعاً يدعو الى استبدال مبدأ مسؤولية الحماية بمجموعة من المبادئ والاجراءات تعرف ب «المسؤولية في الحماية» (الحماية المسؤولة). والمشروع هذا يقترح سلسلة من المعايير يمنح مجلس الامن التفويض بالتدخل العسكري بموجبها. ومن هذه المعايير: التوسل بالقوة هو الدواء الأخير، ونسبية القوة، وموازنة النتائج. ويقترح كذلك ارساء أواليات مراقبة ومراجعة للسهر على مناقشة سبل تنفيذ التفويض وتقويمها. ورد بريطانيا والولاياتالمتحدة وفرنسا على المشروع هذا كان الازدراء. وتناهت الى مسامع المرء السخرية والهزء، وقيل أن هذه الدول تريد الإرجاء والتأخير والخيارات التي تعطل عجلة العملية عن الدوران. لكن النبرة هذه بدأت تنحسر. وأبدت البرازيل الاستعداد لتعديل صياغة مشروعها تعديلاً ييسر تنفيذ الاقتراحات، ويحمل الدول على الموافقة عليها. لكن انبعاث الإجماع على سبل تنفيذ مبدأ الحماية في الحالات الصعبة قد يأتي بعد فوات الأوان في سورية. والجميع يدرك أن البديل عن تعاون مجلس الامن هو العودة الى أيام رواندا وسربرنيتشا وكوسوفو السوداء: أي الشلل التام والوقوف موقف المتفرج ازاء الجرائم أو عمليات تخرج على شرعة الاممالمتحدة. ومثل هذه النتيجة يفطر القلب ويبدد إنجازات العقد الأخير. * وزير خارجية استراليا السابق (صاحب «مسؤولية الحماية»: طي الجرائم الشاملة الفظيعة)، عن موقع «بروجيكت سانديكات» الدولي، 27/1/2012، اعداد منال نحاس