ثمة مقولة اساسية في فكرنا العربي الحديث تزعم ان اي تحول او انقلاب، سياسياً كان او اجتماعياً، يبقى هشاً ومخادعاً ومعرضاً للارتداد الى نقيضه إن لم يقم على خلفية ايديولوجية مختلفة في اصولها ومناهجها وآلياتها. كان هذا على سبيل المثال تصوّر أديب اسحق وأمين الريحاني، وعمر فاخوري الذي قال جازماً: «ان الثورات السياسية التي تبهر أعين المؤرخين أقل الثورات قيمة، وما كان تغيير اسم الحكومة او طراز الادارة او القانون، تغييراً لحالة الشعب العقلية أبداً، وليس قلب اوضاع الامة دليلاً على قلب روحها البتة». يساورني هذا التصوّر امام مشهد الرئيس حسني مبارك محمولاً على سرير وفي شبه غيبوبة الى قاعة المحكمة، او مشهد القتل البربري لمعمر القذافي وقبله مشهد الإعدام الاحتفالي لصدام حسين، في ما يمثل مظاهر مقززة من مظاهر التشفي والثأر والانتقام، ويؤكد ان ما يبدو من تضاد او قطيعة او انقلاب ليس صورة حقيقية للعلاقة بين الأنظمة البائدة والراهنة، اذ يهمل ما بينها من الوحدة والتلاقي ويتجاوز ما يجمعها من صلات في المنهج والآلية والتفكير، كونها كلها تتوسل العنف والقهر والإساءة الى الانسان بصفته كائناً واجب احترامه قبل اي اعتبار آخر وبصرف النظر عن اخطائه وارتكاباته. كما انها كلها تقدّس المنتصر القاهر وتشيطن الآخر المقهور وتبرر نبذه واستئصاله والتنكيل به من دون هوادة. فهل ثمة اختلاف بين ممارسات انقلابيي مصر اللامدنية في حق مبارك وممارسات انقلابيي ليبيا البربرية بالقذافي والمراسم الاحتفالية في إعدام صدام حسين، وبين ممارسات مبارك والقذافي وصدام بحق شعوبهم ومناوئيهم؟ هل تعامل انقلابيو اليوم مع خصومهم بصورة اكثر ديموقراطية مما تعامل به اولئك الطغاة مع معارضيهم؟ أليس في ما نراه من ممارسات راهنة دلالة ساطعة على ان ثمة عقلاً واحداً لا ديموقراطياً مسقطاً كل قيمة انسانية للخصوم ومسوغاً التعامل معهم دونما رحمة وبكل ما يقتضيه الثأر القبلي، يجمع بين الانظمة المتناقضة ظاهراً والمتفقة حقيقة في عدم اعترافها بالانسان كقيمة في حد ذاته، ولو مخطئاً ومرتكباً؟ ألم يكن أشد إيلاماً لصدام ومبارك والقذافي لو انهم حوكموا أمام محاكم عصرية عادلة وترك لهم حق الدفاع عن انفسهم ثم دينوا بقهر شعوبهم واغتصابها وراحوا يمضون بقية ايامهم في سجونهم جراء ما ارتكبت ايديهم؟ ألم يكن تصرف كهذا أقرب الى عصرنا وأكثر انسجاماً مع روحه الليبرالية ومبادئ حقوق الانسان التي باتت من بديهيات الديموقراطية منذ الاعلان العالمي لحقوق الانسان قبل أكثر من ستين عاماً؟ تحضرني في هذا السياق محاكمة الياباني كوزي اوكاموتو في السبعينات بعد عملية مطار اللد التي اودت بعشرات القتلى والجرحى الاسرائيليين. فقد أعطي اوكاموتو تسعين دقيقة للدفاع عما قام به، على فداحته في نظر الاسرائيليين، بل انه انبرى مهاجماً الصهيونية وخطاياها بحق الشعب الفلسطيني واغتصابها فلسطين زوراً وظلماً، وحين طلب من القاضي أن يحكمه بالإعدام لأنه كان يريد ان يستشهد مع رفاقه، هبّ محامي الدفاع الاسرائيلي رافضاً ذلك، وبقي اوكاموتو سجيناً الى ان أُفرج عنه سليماً معافىً، في تبادل للأسرى بين لبنان وإسرائيل. الأمر نفسه حصل مع الاسير اللبناني سمير القنطار الذي أصر الاسرائيليون على عدم الإفراج عنه، لفداحة فعلته في رأيهم، ولكنه حُرر وعاد الى لبنان وتزوج وأنجب. لسنا هنا للدفاع عن الصهيونية وجرائمها. ما نريد قوله ان اسرائيل رغم كل عدوانيتها وانتهاكها لحقوق العرب القومية والانسانية تراعي ولو شكلياً بعض المبادئ الديموقراطية التي لا نعبأ بها، بل اننا ننتهكها انتهاكاً صارخاً وغير مقبول في زمن دعي ب «ربيع الديموقراطية العربي». أما آن الأوان لمراجعة نقدية لفكرنا السياسي الاجتماعي وإعادة النظر بصورة جذرية ليس فقط في سلوكنا التصفوي لأخصامنا بل في المنهج والآلية المتحكمين في تعاملنا مع الآخر، أياً يكن هذا الآخر، بما يحفظ الحد الأدنى لحقوق الانسان بمعناه الحداثي، فربما كان هذا مناسبة لتوفير الكثير من القتل العبثي وتجنّب الانكفاء الى البربرية من جديد. * كاتب لبناني