ما زالت الاحتجاجات الشعبية السلمية المطالبة بسقوط النظام الاستبدادي تعمّ معظم المدن والبلدات السورية، على رغم القمع الوحشي الذي يتعرض له المحتجون اضطهاداً أو اعتقالاً أو قتلاً. ويستشرس النظام في الدفاع عن وجوده وامتيازاته، معتمداً على أجهزته العسكرية والأمنية التي بُنيت على قاعدة الحفاظ على النظام، من خلال قمع الحريات واعتقال أصحاب الرأي والضمير وتوجيه الإعلام وإثارة الخوف والرعب في نفوس المواطنين، وليس على قاعدة الحفاظ على كرامة المواطنين وحماية الحدود واسترجاع الجولان المحتل. ومستنداً إلى دعم الأقليات الدينية المتوجسة من تحوّل الحكم إلى الإسلاميين، وطبقة التجار التي نسجت علاقات مع بعض مراكز القوى في النظام وحظيت بتسهيلات وامتيازات كثيرة، والخائفين على الاستقرار والسلم الأهلي من حرب طائفية طاحنة. وتحمّل السوريون سنوات طويلة شظف الحياة من أجل تجهيز جيشهم بالأسلحة والمعدات لاسترداد الجولان المحتل، فإذ بهذا السلاح يصوب إلى صدورهم، ويقتل منهم في شهور قليلة أكثر من ستة آلاف ويجرح عشرات الآلاف، بينما جبهة الجولان تنعم بالهدوء والسكينة والعدو الإسرائيلي يتمتع بالمشاريع السياحية التي أقامها في الأراضي السورية المحتلة. واعتمد النظام السوري على مدى أربعة عقود سياسة القبضة الحديد والتخلص من مناوئيه بالقتل والإخفاء والسجن، ولم يتوان عام 1982 من ارتكاب مجزرة في حماه للقضاء على انتفاضتها ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف سوري. كما اعتمد النظام سياسة الكذب والمراوغة والتقية، والتدخل في شؤون لبنان والعراق وإذكاء الانقسامات والفتن فيهما، وابتزاز بعض الدول العربية لإبعاد الأذى الإيراني عنها، والولايات المتحدة في تعاونه معها لمكافحة الإرهاب وإعادة الاستقرار إلى لبنان والعراق، والكل يعلم أن هذا النظام هو من أوائل الذين استخدموا الإرهاب في المنطقة، وله صولات وجولات في هذا الشأن، خصوصاً في لبنان الذي عانى منه عقوداً من الزمن، تلطخت خلالها يديه بدماء قيادات سياسية ودينية وإعلامية وثقافية وطنية كبيرة عارضت وصايته على بلدها وتحكمه بقرارها. واعتمد النظام كذلك سياسة الهروب إلى الأمام بادعاء المقاومة والممانعة، في حين منع المقاومين من الوصول إلى الجولان المحتل لتحريره، وسعى جاهداً لمعاودة المفاوضات مع إسرائيل. وكانت دمشق أرست في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد علاقات وثيقة مع طهران تعارضت مع مصالح الدول العربية، وتحولت في عهد ابنه بشار إلى تحالف متين، أدى إلى تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة العربية وتدخل طهران في شؤون بلدانها وتهديد أمنها وسلمها الأهلي واستباحة الساحة اللبنانية وربطها بملفاتها القومية. وفشلت الدول العربية والغربية في فك هذا التحالف، على رغم ما قدمت له من إغراءات مالية واستثمارية، ووعود بفك عزلته وشطب اسمه عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، ومساعدته في استعادة الجولان. سألني صديق بعد اندلاع الاحتجاجات السورية بأسابيع قليلة، كم ستطول مدتها؟ كان جوابي شهوراً قليلة. أجابني: كنا نقول الشيء نفسه في بداية الأحداث اللبنانية التي تحوّلت إلى حرب أهلية وحرب إقليمية – إقليمية دامت خمس عشرة سنة، وأنا خائف من تطور الأمور في سورية إلى حرب أهلية تؤدي إلى إضعافها وتفتيتها. وتذكرني المبادرة العربية لحل الأزمة السورية واجتماعات اللجنة الوزارية العربية المتكررة والجدال الذي يدور حول المراقبين العرب بما كان يجري في سبعينات القرن الماضي في أروقة الجامعة العربية وبعض العواصم العربية من اجتماعات ومبادرات لحل الأزمة اللبنانية، فشلت جميعها في وأد الفتنة ووقف صراع الأنظمة العربية على الأراضي اللبنانية. فشلت المبادرة العربية في وقف حمام الدم في سورية، إذ لم يلتزم النظام السوري تنفيذ أي بند من بنودها، وكل ما فعله سحب قسم من دباباته من مراكز المدن إلى أطرافها وأحلّ مكانها ناقلات جند مدرعة مجهزة برشاشات ثقيلة، وبقي القناصة يصطادون المواطنين الأبرياء والمحتجين السلميين. ولم يسمح النظام للإعلام العربي والغربي بالدخول إلى سورية لمواكبة الأحداث الجارية فيها وإطلاع العالم عليها، كما لم يسمح للمراقبين العرب بزيارة المعتقلين الذين لم يفصح عن أسمائهم وعددهم ومكان اعتقالهم. ويعتبر هجوم الأسد في خطابه الأخير على مدرج جامعة دمشق على الجامعة العربية، واتهامه معظم دولها بالتآمر على بلده، ونعته الثائرين ضد تسلطه بالإرهابيين، محاولة لتقوية عزيمته وشد عصب أنصاره. ونسف الأسد المبادرة العربية بإعلانه التمسك بالسلطة والحل الأمني، ما يعني رفضه تنفيذ بنودها التي تدعو إلى وقف القتل والعنف وإجراء إصلاحات سياسية حقيقية تؤدي إلى إقامة نظام ديموقراطي تعددي. وبينما كان الأسد يلقي خطابه اعتدت «شبيحته» على المراقبين العرب في تجاوز فاضح للبروتوكول الموقّع بين الحكومة السورية والجامعة العربية الذي يُجبر دمشق على تأمين الحماية للمراقبين. ولا تشير المعطيات إلى حلّ قريب للأزمة السورية، نتيجة تشبث الأسد بالسلطة ورفضه الحل السياسي، وتماسك نظامه وبقاء الألوية المؤثرة في القوات المسلحة على ولائها له، ودعم روسيا والصين ورفضهما فرض أي عقوبات دولية على نظامه. في المقابل، يؤكد المعارضون متابعة تحركهم السلمي حتى إسقاط النظام، مستندين إلى حماية جزئية من العسكريين المنشقين، ما سيؤدي إلى سقوط مزيد من القتلى والجرحى. وستؤدي الاضطرابات المتواصلة إلى انهيار الاقتصاد الوطني وتقلص واردات الدولة وزيادة أعبائها بالتالي عدم قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها المالية والاجتماعية، على رغم الدعم المالي الإيراني. ولا تبدو في الأفق خريطة طريق عربية ودولية جدية لإنقاذ الشعب السوري من طغيان النظام المتحكم برقابه. فهل يعود التردد العربي في تحويل الملف السوري إلى مجلس الأمن إلى الخلافات العربية أو الخوف من الفيتو الروسي؟ أو إلى انقسام المعارضة السورية وعدم توافقها على برنامج وطني واحد يصلح لمرحلة ما بعد الأسد؟ وعلينا عدم استسهال الحلول للأزمة السورية، فالنظام السوري مستعد أن يحرق البلد ويدمره بحرب أهلية من أجل بقائه، وحلفاؤه جاهزون لمؤازرته بإثارة الاضطرابات في الإقليم. كما أن التدخل العسكري الأجنبي يطيح بالبنى التحتية المدنية والعسكرية ويصب في مصلحة العدو الإسرائيلي. والوسائل الكفيلة بتحقيق أهداف الثورة السورية هي تقديم المساعدات الإنسانية للمناطق الثائرة والمنكوبة، ودعم المنتفضين بكل الوسائل التي تساعدهم على متابعة انتفاضتهم، وتأمين الحماية الدولية لهم، وتعزيز العقوبات السياسية والاقتصادية ضد السلطة السورية، ما يؤدي في النهاية إلى انهيار كامل للأوضاع الاقتصادية والمالية وتفكك النظام وسقوطه. * كاتب لبناني