يوم باشرت اعداد دراسة عن سبل الاصلاح الاقتصادي في مصر في 2004، واجهت معارضة من مجموعات مختلفة. فالدراسة خلصت الى أن 8.2 مليون مصري يعملون في مرافق الاقتصاد «السوداء» غير الرسمية والخارجة على القانون. وهؤلاء لا يملكون سندات ملكية عقاراتهم ولا ضمان قانونياً لأصولهم. وقدرنا نسبة المقاولين وأصحاب الشركات العاملين خارج الاطار القانوني ب82 في المئة من أصحاب العمل، و92 في المئة من المصريين لم يحوزوا سندات قانونية لممتلكاتهم. وإذا أدرجت هذه المرافق في سياق الاقتصاد المصري «المشروع»، تدفقت في قناته 400 بليون دولار، والمبلغ هذا يفوق قيمة الاستثمارات الاجنبية في مصر، منذ حملة نابوليون الى اليوم. الدراسة أعدت بالتعاون مع وزارة المال، وهي طلبت اعدادها، وصغنا برنامجاً لشرعنة هذه الحقوق واقترحناه على المجلس الاقتصادي الحكومي المصري. ورمى البرنامج الى دمج المهمشين، ومنحهم الحقوق العقارية والتجارية. ومثل هذه الحقوق يسمح على سبيل المثل لصاحب العمل باستقطاب المستثمرين أو حماية أصوله من طريق انشاء شركة ذات مسؤوليات قانونية محددة. والمشروع واعد: يعزز قوة الفقراء، ويحمي حقوق المستثمرين القانونية، ويساهم في تحسين الحوكمة، ويحرك عجلة جباية الحكومة الضرائب وتقليص معدلاتها. لكن مسؤولين في الحكومة اطاحوا مشروع الاصلاح. والدراسة طرحت للتداول والنقاش في مؤتمرات كثيرة وبرامج «توك شو»، وصادق عليها أعضاء المجلس الاقتصادي كلهم. واقترحنا طرح المشروع على استفتاء شعبي، ولكن في كل نظام ثمة مجموعة صغيرة من الناس تستفيد من بقاء الأمور على حالها. والإصلاح هو رهن إرساء مؤسسات نافذة. وإذا بوشرت عملية التغيير، تصدى لها المستفيدون من ال «ستاتو كو». لذا، اقترحنا انشاء منظمة تروج للاصلاح وترسي عمليته داخل البنية البيروقراطية وترعاها. وهذا ما لم يحصل، ولم تدر عجلة الاصلاح، ولم نعرف من عرقل العملية، وقاومها. فهم لم يخرجوا الى العلن. وتشير نتائج الانتخابات البرلمانية الى أن «الإخوان المسلمين» سيتحكمون بمقاليد البرلمان. ومن يطلع على القرآن، لا يساوره شك في انحيازه الى احترام الحقوق والإيفاء بالديون وحق الملكية. واكتشفت مجموعة الدراسة أن كل مبنى أو شركة مخالفة للقوانين في مصر تملك سنداً يسوغ «وجودها». لكن المشكلة أن السندات هذه غير صادرة عن الحكومة، بل عن جمعيات محلية دينية أو غير دينية أرست اجراءات للمصادقة على ملكية فلان لعقار وآخر لشركة. لكن مشروعية هذا النوع من الوثائق القانونية ضعيفة، ولا يقر بها جميع أبناء النظام بصرف النظر عن صاحب السند ومرتبته، على نحو ما يقرون بالسندات الرسمية. ولا تحل السندات هذه محل السندات الرسمية في توثيق الملكية وتحويلها الى رأسمال. لكن الحال هذه تشير الى أن الخطوات الاولى نحو توثيق الملكية بدأت في مصر، ولو في دوائر الظل. فعملية إثبات الملكية انطلقت من هذه الدوائر في كل دول العالم. فعلى سبيل المثل، كتاب دومسداي البريطاني، وهو خلاصة احصاء الاراضي والعقارات وملكيتها بين 1085 و1086 الذي أمر به ويليام الفاتح، وثّق معلومات عن الملكية في انكلترا العصور الوسطى: «جون سميث يملك عدداً كبيراً من المواشي والحظائر». والتوثيق هذا لم يرقَ الى صك سندات. ولكن مع مرور الوقت، استند الى هذه المعلومات لاستحداث سندات ملكية. وعلى رغم أن هذه السيرورة امتدت طوال قرون قبل أن تبلغ هدفها، ثمة خطوات ملموسة تؤدي الى بسط سلطة القانون على الملكيات في مصر. وقدرت مجموعة البحث ووزارة المال قيمة الاصول هذه ب400 بليون دولار، وضم هذه الاصول الى الاقتصاد الرسمي يضاعف النمو الاقتصادي في الاعوام الخمسة المقبلة. في المقابل، عملية الاصلاح في البيرو انعقدت ثمارها فوراً: فهي رفعت أسعار العقارات في أفقر الأمكنة وأكثرها هامشية. وفي أحياء الصفيح في ليما، ارتفعت قيمة الاكواخ نحو 400 في المئة بين عامي 1997 و2010. والارتفاع هذا وثيق الصلة بضمانة حقوق الملكية والملكية الموثقة و «الموثوق فيها» من غير لبس. ويعود ادراج منظمة «شاينينغ باث» الارهابية البيروفية اسمي وأسماء زملائي على لائحة أهدافها الى مشاركتنا في ارساء عملية الاصلاح. وتجربة البيرو تشبه تجارب كل الدول التي تعاني الإرهاب. فالمجموعات الارهابية تتوجه الى جماعة تعتبر نفسها مهمشة ومقموعة، وتعرض عليها خدماتها. وفي البيرو، نصبت «شاينينغ باث» نفسها ضامنة للملكيات غير المشروعة والتي لا يقر بها القانون. وحين وضعت خطط للاعتراف بهذه الاصول وجعلها قانونية، شعرت المنظمة الارهابية بأنها مهددة. وعملية الاصلاح أفضت الى ارتفاع نسبة حيازة النساء العقارات التي كانت ملكيتها من غير سند قانوني، من 30 في المئة الى 56 في المئة. ولجأت «شاينينغ باث» الى العنف والقوة للانتقام، وأنشأت خلية اغتيالات حاولت استهدافي. ونجوت من الاغتيال لكن عدداً من زملائي والمارين أصيبوا، وتضرروا. وإذا اجتمع اثنان في القاهرة، بائع وشارٍ، وقال الأول أن قيمة الارض نحو مليون دولار، ووافقه الثاني، لن يطول الامر بالشاري قبل أن يسأل البائع عن سند الملكية ويجيب الأخير أنه غير متوافر. البائع يعرف وجيرانه أن الارض هذه تعود له، لكنه لا يملك ورقة قانونية تثبت ذلك. والاغلب أن الشاري سيتردد في إبرام الصفقة، ولكن إذا صيغت معايير منمذجة لقيمة الاراضي وسعرها ووثائقها، رفعت القيود عن احتمالات اقتصادية ضخمة. إن إنجاز مثل هذا الإصلاح وانعقاد ثماره بين ليلة وضحاها ممكن، وهو رهن القرار السياسي بتغيير واقع الامور وإيكال تنفيذ المشروع الى مَن يستفيد من إنجازه. وهذا ما فعله اليابانيون بين 1945 و1950. فارتقت اليابان من بلد اقطاعي ناتجه المحلي أقل من نظيره في دول أميركا اللاتينية الى واحد من أقوى الاقتصادات في العالم. لكن الاصلاح متعذر إذا أوكل الى أعداء التغيير. ويدور الكلام على أن المجلس العسكري المصري، وهو يسيطر على قطاعات كبيرة من الاقتصاد المصري، عاجز عن التنافس في مناخ اقتصادي حر. لكنني لست مصرياً وغير مخول تناول مثل هذه المسألة. مع ذلك أنصح بإيلاء مصالح الفقراء الاولوية، وتوجيه عملية الاصلاح القانونية الى توفير الفرص لهم (الفقراء) وتعزيز حقوقهم. وحريّ بعملية الاصلاح أن تخطو أيسر الخطوات في وقت أول، أي أن تساهم في حمل المصريين على ادراك أن أصولهم وملكياتها «خارجة عن طوعهم» وأنهم لا يملكونها فعلاً، ولا يسعهم توسلها في الاستثمار والتمويل. ويفترض أن ينزل الاصلاح على ما يشغل الناس أولاً، ثم ينصرف إلى معالجة المشكلات الاخرى. والحق أن ماركس أدرك أن ما يطيح السلطة هو ذيوع الشعور بالاغتراب: شعور المواطن بأنه خارج نظام الانتاج وبأنه مهمّش. وفي مصر لا يقتصر المهمشون على الطبقة العاملة، فالطبقة الدنيا تشعر بأنها مهمشة، وعدد من هؤلاء المهمشين أضرم النار بنفسه للاحتجاج على الاوضاع، ولم ينشر تغريدة على «تويتر» أو يستخدم منبر «فايسبوك» للاحتجاج. قابلتُ ناجياً أضرم النار بنفسه، وهو يدير مطعماً صغيراً، ويتعرض للابتزاز المتواصل. قلتُ له: «أنت صاحب عمل صودرت بعض حقوقه». فقاطعني قائلاً: «أرجوك لا تعتبرني صاحب عمل، أنا فقير فحسب». ولزمني وقت لأفهم ما يعنيه. فاعتباره نفسه من الفقراء يخوله الحصول على مساعدة عينية قوامها أرغفة خبز مخفضة السعر. وهو يقدم هذا الخبز على طاولات مطعمه. ولم يخطر في بال هذا الرجل أن حيازته وسائل تجارية قانونية ومشروعة تعود عليه بربح وفير وتحسن ظروف حياته. وحركات الاحتجاج في مصر والشرق الأوسط هي حركات لم يُدرَك جوهرها السياسي بعد، وفهم السياسيين حاجات هذه الطبقة الثائرة يخولهم ارساء الاصلاحات. * اقتصادي بيروفي، عن موقع «فورين بوليسي» الاميركية، 12/1/2012، اعداد منال نحاس