التقيت قبل أيام عضواً في الكونغرس الأميركي. سألته: ما إمكانية أن توافقوا في الكونغرس على منح مصر وغيرها من دول الربيع العربي بضعة بلايين في إطار خطة إنعاش اقتصادي؟ فكان رده سلبياً «لا نستطيع أن نلتزم بأية مساعدات الآن غير ما هو مقرر حالياً». حتى الآن أتفهم رده في ظل الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها بلاده. الجزء التالي من إجابته هو الذي يدعو للقلق «كما أن من الأفضل أن ننتظر حتى تجرى انتخابات ثانية أو ثالثة كي نطمئن أن مصر ماضية في ديموقراطية حقيقية!». ترجمة ذلك أن على مصر أن تنتظر من 8 إلى 12 سنة أخرى قبل أن ينظر إليها الأميركي بعين الاهتمام. عضو الكونغرس الذي تحدثت إليه «جمهوري»، ما يشرح طريقة التفكير العقيم هذه. فالولاياتالمتحدة أدخلها رئيسها السابق جورج بوش ويمينه المحافظ في حالة استقطاب سياسي وعقائدي حاد مع نفسها ومع العالم لم تخرج منها بعد، ما يفسر موقف هذا الجمهوري المتعصب المستعد لأن يترك مصر تغرق في ديونها وبطالتها حتى يطمئن سعادته إلى أنها ديموقراطية حقة، ولو سألته لأضاف من دون تردد «ونطمئن أيضاً على أمن إسرائيل». ولكننا نحن العرب لن نتخلى عن مصر وتونس والمغرب وكل دول «الربيع العربي»، بل الأفضل لنا أن نكون جميعاً شركاء في ربيع عربي اقتصادي. حان الوقت لخطة «إنعاش اقتصادي عربي» تنطلق من دول الاستقرار العربي وعبر مجلس التعاون الخليجي إلى جامعتنا العربية ومنهما إلى كل «دول الربيع». مشروع على غرار «خطة مارشال» التي أخرجت أوروبا من دمار ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى نهضة اقتصادية وفائض في الإنتاج ورخاء نعمت به هي والعالم الغربي لعقود طويلة لم ينقطع خيرها إلا أخيراً نتيجة الجشع وطول دورة النماء التي امتدت لأكثر من نصف قرن منذ أعلن وزير الخارجية الأميركية جورج مارشال من جامعة هارفارد عام 1947 عن رؤيته لإنعاش الاقتصاد الأوروبي في خطبة جمعت فأوعت. ولكن ما هو مشروع مارشال؟ إنه أكبر من مال يذهب من حكومة السعودية إلى حكومة مصر أو تونس ويختفي هناك، وليس مجرد طريق تموله أبو ظبي في المغرب، أو جامعة تبنيها الكويت في حمص تعوض أهلها ما فقدوه وعانوه تحت حكم «احتلال محلي غاشم». إنه أكبر من ذلك. إنه مشروع وحدوي، أزال الحدود والموانع الاقتصادية. ألغى عداوات الماضي وصراعات التاريخ العتيق سياسة وفكراً وديناً. دعم المبادرات الحرة الجديدة. دفع مشروع مارشال أوروبا لأول مرة إلى الشفافية الاقتصادية بعدما كانت أرقام الإنتاج والاستهلاك أسراراً عسكرية، بل دفعهم إلى التنسيق والمشاركة في ما بينهم حيال إنتاج واستهلاك سلع وخدمات أساسية ذات طبيعة مشتركة كالصلب والفحم والنقل والكهرباء، والأهم أنه لم يكن لأوروبا بل كان أيضا دمجاً لاقتصادها مع الولاياتالمتحدة المنتصرة واليابان، ونهضة مشتركة للجميع. كان مشروعاً للقوى الرأسمالية الغربية لمواجهة الاتحاد السوفياتي ذات النظام الاشتراكي المختلف جذرياً، وأيضاً لاحتواء القوى الثورية الأوروبية التي قادت المقاومة ضد الاحتلال، ولاستعادة البورجوازية الأوروبية في ألمانيا وفرنسا تحديداً بعدما ضلّت وتعاطفت أو شاركت أو سكتت على «آثام» النازية. كل ذلك وأكثر موجود ونحتاجه في العالم العربي، فنحن أيضاً مررنا بحرب عالمية لا تبقي ولا تذر... ستون عاماً من الحصاد المر لحزب البعث وعبدالناصر والقذافي وصدام وآل الأسد. تخبط اقتصادي وتفكك اجتماعي وهزائم عسكرية وفقد وطن بكامله ومقدسات، نخرج منها الآن صرعى وسكارى نستشعر ثقلها مثلما استشعر الأوروبيون ثقل الهزيمة وتكلفة الانتصار الباهظة. الخبر الإيجابي أنه بعد أربع سنوات فقط، نعم خلال أربع سنوات فقط، عام 1952 تحديداً، توقف ضخ ال13 بليون دولار المعتمدة في مشروع مارشال بعدما حقق أهدافه في شكل أكبر من المتوقع. تبين لاحقاً للاقتصاديين أن المال الأميركي كان مجرد «شحن كهربائي» للسيارة الأوروبية المعطلة، تحرك خلالها وبعدها الاقتصاد الأوروبي بقدرته الذاتية لتتفوق أوروبا على نفسها. زاد إنتاجها بعد أربعة أعوام فقط بنسبة 35 في المئة عما كان عليه عام 1938 أي قبل الحرب بعام واحد. هل يمكن أن يحصل هذا في العالم العربي؟ نعم، إذا توافرت الحكومات المناسبة والرجال التاريخيون الذين أنعم الله على أوروبا بعد الحرب بمثلهم. الحكومة ورجال من الشعب ولكن أقوياء مستقلون يقودون الشعب بالمشاركة والديموقراطية والاحتكام إلى القانون والعدالة وترتيب الأولويات. منظومة تحتاج لحكماء بآفاق واسعة ونظرة مستقبلية وليس قيادات شعبوية مُهرّجة تحرك مشاعر الناس من الفضائيات ومنابر المساجد وأعمدة الصحف نحو التشظي وتصفية الحسابات وصنع الكوابيس. في كلمته من جامعة هارفرد، خاطب جورج مارشال الأوروبيين قائلاً لهم إنه قبل أن تتبرع الولاياتالمتحدة بأية مساعدات مالية يتعين أن تتفق دول أوروبا في ما بينها حول كيفية إنفاق هذه الأموال، تاركاً لهم حرية تحديد مصيرهم واختيارهم. كان رجلاً حكيماً، يعرف أوروبا وقد خدم فيها رئيساً لأركان الجيش الأميركي خلال الحرب، بل أمضى فيها زمناً بعيد الحرب الأولى، فعرف تنوعها وحروبها وثراء ثقافتها وصراع ساستها، بينما هو عسكري أميركي تميز عليهم بأنه آت من بلد الاستقرار وفائض المال. كان يعلم أن الأوروبي على رغم جراحه الدامية لن يستمع إلى «يانكي» يرى أنه يفتقد عمق الحضارة والتاريخ، يحدد له ما عليه فعله. في لندن كان هناك رجل حكيم آخر، إرنست بيفن وزير الخارجية البريطاني يستمع لكلمة مارشال التي بثت عبر الإذاعة البريطانية. سارع إلى الاتصال بنظيره الفرنسي ودعوَا إلى مؤتمر اقتصادي أوروبي، وبدأت أوروبا تتخلى عن أفكارها القديمة لتنطلق نحو عالم هائل جديد. بعد 60 عاماً من خطاب مارشال بلغ الناتج القومي لأوروبا الموحدة، الاتحاد الأوروبي، 14 ترليون دولار، أي ما يفوق الناتج القومي الأميركي. هل يمكن أن يحصل هذا في العالم العربي؟ بالطبع، ولكن لا بد أن يتحرك زعيم عربي ويخاطب إخوانه في دول «الربيع العربي» ويقول لهم: اتفقوا، اجتمعوا، حددوا ما تريدون، وحينها سنقدم لكم الدعم الذي يقودنا جميعاً إلى عالم عربي جديد عزيز. * كاتب سعودي [email protected] twitter | @JKhashoggi