جلس لويس مورينو أوكامبو في مقهى الدخول الموقت بعدما خرج من اجتماع في المقر الموقت لمجلس الأمن، لأن عليه ان يمر من سرداب الى آخر ويطل على نهر نيويورك الشرقي لتناول فنجان قهوة «كافيتيتو» ويستجمع أفكاره حول ما يحدث. كانت السنة توشك على الانتهاء وهذه المرة كما في السابق قدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ما لديه من مستندات وشبهات حول عدد من كبار المسؤولين في حكومة السودان وأحداث دارفور. ولكنه بدل التهليل المعهود برز صمت مطبق وعيون تتطلع نحو السقف. فالوفود التي كانت تعانقه وتشد من أزره انسابت بسرعة نحو باب الخروج، والصحافيون المعتمدون في المبنى الدولي يحيطون به لاستدراج العناوين. حتى المؤتمر الصحافي الذي دعا اليه لم يحضره إلا الموظف المختص بالترجمة، والتسجيل قبل سنة كان يتعامل مع رؤساء الدول لا أعضاء الوفود. وكاد يتصرف كرئيس دولة، يدّعي ويستدعي، يبعد ويتودد أو يندد ويتوعد وسط اعجاب كبار القادة وتهليل كبريات الصحف مما دفع مكتبه الخاص الى توزيع مجموعة صور: بعبارة المدعي العام وخلفه شعار المحكمة أو بالثياب المدنية، هو يبتسم أو عاقد الحاجبين أو بين بين. انما الأمور اختلفت تماماً هذه الأيام. بدل الإطناب والإعجاب سمع من يناديه في عشاء رسمي بالمدعي العام «السابق». قبل سنة ونصف السنة كان الرئيس عمر البشير يتحسب زيارة أقرب العواصم، فإذا به يحضر علناً قمة رؤساء الدول الأفريقية. وبينما كانت مندوبة الولاياتالمتحدة السفيرة سوزان رايس تشد من أزره وهي تطالب علناً بالقبض على الرئيس السوداني إذا بها تلتقي - باسمة المحيا، بالمشير البشير خلال الاحتفال بإعلان دولة الجنوب، العضو ال193 في الأممالمتحدة. بل ان رئيسه - نظرياً - الأمين العام بان كي مون صافح الرئيس البشير مبشراً بمستقبل واعد لجميع الأطراف. أما المطلوب الرسمي الآخر، وزير الدفاع فلم يعد متخفياً في الخرطوم بل أصبحت تنقله طائرات هليكوبتر الأممالمتحدة من جنوب كردفان وأبيي تسهيلاً لمهمات حفظ السلام. أما في دارفور نفسها التي بنى المدعي العام على أحداثها عناصر الاتهام فقط سقط رئيس حركة المعارضة خليل ابراهيم فجأة متأثراً بجراحه أو في الطريق بين معركة وأخرى أو برصاصة في العنق من دون أن يسأل أحد عن المزيد من التفاصيل. الواضح ان فعالية السنيور أوكامبو قد تلاشت عملياً قبل ان تنتهي مهمته رسمياً. وذلك في خريف 2010، في الأسبوع الأول لاجتماع دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. بعد الأيام الثلاثة الأولى من الخطابات الرسمية، استدعى الرئيس الأميركي باراك أوباما على عجل عدداً من رؤساء الدول والوفود في قاعة جانبية صغيرة. لم يكن هناك مجال للبروتوكول. فالأمين العام للمنظمة الدولية الذي يستضيف عادة مثل تلك الاجتماعات لم يكن هناك، أُجلس الرؤساء المعنيون بموضوع السودان في النصف الأول من دون ترتيب أبجدي أو رسمي. كان بينهم عرب وأفارقة وأوروبيون. أما الرؤساء غير المعنيين الذين هرولوا من باب الاحتياط أو الاستدراك، فقد نُقلوا الى الصف الثاني حيث وزراء الخارجية أو الصف الثالث حيث المنظمات الإقليمية كأمين عام الجامعة العربية أو ممثلة المجموعة الأوروبية منظمة الوحدة الأفريقية. جلسوا صامتين وكأنهم في صف دراسي منتظم بانتظار ما سيقوله الأستاذ. أما الأستاذ باراك أوباما فقد دخل مباشرة في موضوع جنوب السودان. أشار الى وجود المبعوث الخاص للرئيس عمر البشير الذي وافق تماماً وبالتفاصيل على الاستفتاء الخاص بانفصال الجنوب، أكد ان التصويت المنتظر يجب ان يجرى في الموعد المحدد بالتسهيلات المطلوبة والموعودة من كل الحضور وفي مقدمهم حكومة السودان في الخرطوم. الأمر واضح ومحسوم - قال الأستاذ أوباما - وإذا كان هناك أي استفهام فيجب سماعه الآن. ولا كلمة. التعليق الرئيس جاء من الرئيس الأوغندي موسيفيني الذي ذهل للسرعة التي حصل فيها التوافق فأراد «أن يتأكد مما إذا كان العرب موافقين جدياً أم ان هناك مناورة ما». ابتسم الرئيس الأميركي الأب بتهذيب بالغ وأشار بيده ما معناه: لا داعي لإضاعة الوقت. بعد ذلك سارت الأمور كما هو مطلوب تماماً. كانت أولى برقيات التهنئة بالانفصال واستقلال جولة الجنوب من الرؤساء. والوزراء العرب الذين حضروا الاجتماع وفي مقدمهم الرئيس السوداني الذي أصدر التصريح تلو البيان الرسمي للترحيب ب «الإدارة المعلنة للشعب». فقد أدرك على الأرجح ان كل من يساهم في استراتيجية التفتيت مغفورة خطاياه. أما السنيور أوكامبو فبعدما كان يستطيع التباهي بأنه أخطر المشير البشير بأن يخلع ثيابه العسكرية ليرتدي طاقية الرئيس ويرقص بالرمح في الأدغال... أصبح يعد نفسه للعودة الى «بونس ايرس» عاصمة الرقص المنفرد على أنغام التانغو. فقد حانت المرحلة التالية، ورمزها الأخت «فاتوماتو» من بلاد الغابيين الأفريقية حيث أعيد انتخاب «سعادة الشيخ البروفسور الحاج الدكتور الرئيس يحيا عبدالعزيز جاموس جونكونغ ناصر الدين جامع الجامع» بعد 18 سنة من الحكم بنسبة 59 في المئة من أصوات الشعب. والتفتيت مستمر... في الصف. * إعلامي عربي