ماذا لو جاء ل «الإخوان المسلمين» من يهمس في آذانهم بأن وصولهم الى السلطة في مصر 2011 (أو 2012)، أمر لا قيمة له، بل يكاد أن يساوي صفراً؟ هل تثور ثائرة قياداتهم وجمهورهم، خصوصاً أن في مصر من يُفرِط في الكلام عن التغيير الكبير الذي يعنيه وصول «الإخوان» إلى السلطة، فيعطيه معاني قريبة مما «زلّ» به لسان الحمادي الجبالي، قبيل تسلّمه رئاسة الوزراء في تونس، عن «الخلافة الراشدة السادسة» و «الدورة الحضارية الجديدة» التي «تعيد وضع الأمة الإسلامية في مكانة فريدة مجدداً»، وغير ذلك من مفردات هذا الخطاب بدلاً من تفحص الوقائع التي تعيشها البلدان التي قد يُمسك «الإخوان المسلمون» بمقاليد الحكم فيها، ومصر نموذجها البارز حاضراً. إن أمسكوا بالسلطة في مصر، فإن هي إلا سلطة في بلد عالمثالثي لم يصل حتى الى درجة «الدولة الصاعدة»، بمعنى تخلّفه (مع كل الألم) عن بلدان مثل الهند والبرازيل. لنترك موضوعة التخلّف بحد ذاتها، لأنها تحتاج الى نقاش وافر. ولنعد الى مسألة السلطة في العالم الثالث. ولنحاول أيضاً أن نقصر الكلام على بعض الاختراقات الأساسية التي تكفل جعل هذه السلطة أشبه برداء الصوفيين القدامى: مهلهل تماماً، لكنه مملوء برموز تفوقه كثيراً. ربما يصلح الإهاب المهلهل شهادة على الزهد والتنسّك والترفّع عن شأن الدنيا. لكن السياسة ليست سوى شأن الدنيا، ربما قبل أي شيء آخر. ومن الاختراقات الأساسية للسلطة في مصر، كما برهنت عليها «ثورة 25 يناير» نفسها، التطوّر الضخم في الإعلام والميديا، خصوصاً الإنترنت وشبكاتها ومواقعها، إضافة الى ما يرافقها من تطوّر في شبكات الاتصالات المعاصرة كما يعبّر عنها تطوّر شبكات الخليوي. ليتأمل «الإخوان» في تجربتهم المعاصرة تحديداً. ألم يبد نظام مبارك متألماً بشدة من اختراقات هذه الشبكات له؟ ألم يحاول وقف آلامه عبر قطع الإنترنت والخليوي، وقد ثبت أن الأمر سدى وعبث؟ في تجربة «ثورة 25 يناير»، دروس كبرى في الاختراقات المعاصرة للسلطات، بل حتى النظم والدول، في العالم الثالث. ما هو الدرس الذي تهمس به الأحاديث المتكررة عن «فايسبوك» ودوره في «الربيع العربي»، بغض النظر عن تفاوت وجهات النظر في هذا الأمر؟ المسألة ليست «فايسبوك» تحديداً، بل نموذج عن تطوّر يخترق السلطة، ويتحدى قدرتها على شدّ قبضتها حتى على الأفراد. لقد تحدّث مفكرون في أوروبا، عن تبادل «معارف الثورات» بين الشعوب وأفرادها. لم يعد الأمر يقتضي أن تتشرّب نخبة مثقفة تجارب مُعاشة، كي ينتقل الغضب والاحتجاج والمعرفة والتصرف، بل حتى الحلول والإجراءات العملانية وغيرها. بقول آخر، تجاوز الأمر ما قيل في الحداثة عن التبادل الثقافي والمثاقفة و «الأفكار المستوردة» والتأثر بالآخر وغيرها. هناك تبادل ثقافي على مستوى الأفراد، وخارج سيطرة السلطات، خصوصاً سلطات الدول العالمثالثية. لقد أثبتت حركة «لنحتل وول ستريت» أن التبادل لا يعفي حتى الدول الكبرى المتقدمة، لكن بُناها في السياسة والثقافة والاجتماع تعينها على التعامل بفعالية مع هذا الأمر، فلا يتحوّل «اختراقاً» على طريقة العالم الثالث. هذا أمر يحتاج الى نقاش أيضاً. عندما كان «الإخوان» يديرون المنصة الرئيسية في «ميدان التحرير»، ألم تكن هناك شاشة عملاقة منصوبة فيه، وموجّهة على قناة إخبارية بعينها؟ كيف يمكن التعامل مع مواطن في بيته جهاز تلفزيون فيه أكثر من مئتي قناة بث فضائي؟ كانت أفلام السينما، في القرن العشرين، تكفي لإحداث خضّات كبرى في السلطة وتصرفاتها وعلاقتها مع الجمهور. ألم تعانِ مصر طويلاً من رقابة مكثّفة على السينما وأفلامها، وحُرمت من أفلام لا حصر لها، ، سواء ما صنع منها في مصر وبلاد العرب، أو ما جاء من الخارج؟ ألم تكن مصر بذاتها مصدراً ل «اختراق» في مجال الراديو بحيث مُنِعت إذاعة «صوت العرب» في غير بلد عربي، خشية من آثارها على السلطات، في خمسينات القرن العشرين؟ ألم ينطبق ذلك على أغانٍ وأفلام أيضاً؟ ماذا بعد أن أصبح الخليوي قادراً على استقبال البث الفضائي للتلفزة، والتقاط إذاعات الإنترنت، والوصول الى مواد ال «مَلْتي ميديا» التي تصنع في ثقافات شتى، وتحمل نُظُماً للقيم فائقة التعدّد وشديدة المغايرة وقوية التأثير؟ غني عن القول أن منع الكتب بات نكتة منذ سنوات، في زمن الإنترنت، إذ استطاعت تقنيات بسيطة (ملفات «بي دي أف» مثلاً) أن تجعل ذلك المنع خرقة مهلهلة تماماً. ماذا عن حقيقة أن الشركات هي أقوى من الدول على الإنترنت وفي عوالم الكومبيوتر؟ ألا يبدو ذلك تحدياً للمفاهيم الأساسية في الإستراتيجية عموماً، إضافة الى توهينها المستمر لمعنى السيادة أيضاً؟ هل تأمل «الإخوان» في سابقة «ويكيليكس» التي سبقت «ثورة الياسمين» في تونس، و»ثورة 25 يناير» في مصر؟ في عام «الربيع العربي»، خضعت بلدان متقدمة في أوروبا لأثر اختراق التكتلات السياسية-الاقتصادية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد. أُخرِج بيرلوسكوني اليميني من السلطة في إيطاليا، وسقط باباندريو اليساري وزميله ثباتيرو الإسباني. لم تصمد سلطات في دول أقوى من الدول الواهنة والفاشلة في العالم الثالث، فكيف تصمد هذه الأخيرة؟ لنأخذ عملية اتخاذ القرار السياسي-الاقتصادي في بلد مثل مصر. أمِن المستطاع تجاوز محدّدات مثل البورصات العالمية وصندوق النقد الدولي والهيئات الدولية والشركات العابرة للقارات، والولايات المتحدة وبنكها الفيديرالي وبورصتها القوية واقتصادها الذي ما زال في القلب من الاقتصاد العالمي؟ ماذا عن القرار في النفط والغاز؟ ماذا عن... أشياء لا تحصى. يجدر ب «الإخوان المسلمين» وغيرهم التفكير ملياً في عبارة «السلطة في بلد عالمثالثي»، قبل الدخول في أعياد الوصول الى السلطة.