ونحن نودع 2011 أجمعنا على أنه عام الربيع العربي بامتياز، إنه عام في قرن، وربيع العرب هو حدث القرن، فما هذا الربيع العربي؟ هناك عشرات الأجوبة، ستقرأونها في مقالات تكتب في هذه الصحيفة وغيرها، وتسمعونها كلما بثت إخبارية برنامجاً عن حصاد 2011، كلها صحيح، إلا من يقول إنه مؤامرة، فهذا لا يحترم العرب، كل العرب، لا يحترم الملايين الذين خرجوا من مشارب شتى إلى ميادين وساحات العواصم والمدن العربية، تنوعت مطالبهم وخلفياتهم وأسبابهم للغضب واجتمعوا على حقيقة واحدة... التغيير. لا يحترم السوري والمصري والليبي والتونسي واليمني وكل عربي نزع الخوف الذي سكن نفسه عقوداً طويلة ثم خرج أعزلَ يطلب الحرية وهو يعلم أن فرصته في الموت أكبر من فرصته في الفوز بها، لكنه يعلم أنها ستأتي، إن لم تكن له فسيفوز بها مواطن آخر من بعده. من ذا الذي يستطيع أن يُخرج كلَّ هؤلاء في وقت معلوم إلى مكان معلوم ينادون بمطلب واحد؟ الإعلام الاجتماعي، «فايسبوك» و»تويتر»، هذه مجرد أدوات، مؤامرة رسمت في الولاياتالمتحدة، طورها صربي؟... «كلام فاضي»، إنها قوة التاريخ بما حباها الله من سنن تعمل من داخلها، تتحرك فإذا ما توافقت اللحظة المناسبة مع المكان المناسب تناغمت حركتها الكبيرة وانطلقت بقوتها الهائلة، هذا ما حصل في 2011. إنه استئناف لمسيرة التاريخ التي أُجهِضت، لحركة النهضة العربية التي انطلقت بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918، تنوعت أيامها الأفكار والتوجهات، ولكنها اتَّحدت في السعي نحو دولة عصرية تحكم بالشورى أو الديموقراطية الغربية، وقتها كان أقرب نموذج للنخب السياسية العربية هي خليط غير جذاب من الديموقراطية الغربية الواردة من لدن المستعمر، ومبادئ الإصلاح التي انتصرت ثم انهزمت في تركيا العثمانية، طرحت دولة تقوم على تقنين الشريعة والفصل بين السلطات، مجالس نيابية تمثل الشعب، احترام الإسلام ودوره في المجتمع وحقوق الأقليات مع مدنية الدولة من دون تطرف علماني، ارجعوا إلى صحف ذلك الزمان في مصر والعراق والشام، كانت الأمة كلها في حالة نهوض سياسي وثقافي وفني، بل حتى في الدين والشريعة، أجمل وأفضل كتب في الشريعة ظهرت في ذلك الزمان، فجأة انقض على بلدانِ العرب الناهضة حديثةِ الاستقلال عسكرٌ، أنصافُ متعلمين، فتوقفت النهضة لأكثر من ستة عقود، بل أكثر من ذلك، تراكمت خلال تلك العقود أخطاء، وهزائم، اليوم تتسلم الشعوب العربية أوطانها من جديد لتنهض بها من حيث تركتها قبل ستة عقود ولكن محملة ومثقلة بإخفاقات وكوارث العسكر الذين تحولوا من ثوار إلى مماليك يتوارثون وأبناؤهم وعشيرتهم الحكم، أمة تستأنف الحياة لكن مثقلة بخسارة فلسطين وقدسها الثقيلتين، وما يشكله ذلك من هم وضغط على الضمير العربي، هذه هموم مشتركة بيننا جميعاً لكن في كل بلد حظه من الفشل الاقتصادي والبطالة، التعليم المشوه، الدساتير الخرِبة المليئة بالثغرات، وحدة مزقتها وتعايش مزقته الطائفية والقبلية والجهوية، خسائر هائلة لا تعدل كفتها بعضاً من الإنجازات. لاحظوا أعلام الاستقلال التي يلوّح بها المتظاهرون في سورية وقبلهم ثوار ليبيا، إنها رسالة واضحة على أننا نريد أن نبدأ من هناك، من نقطة الصفر، إنه ليس انقلاباً على النظام الحالي، إنها ثورة على كل ثورة وأدت النهضة العربية، وأبرزها أم الثورات العربية، «23 يوليو» وزعيمها «الخالد» جمال عبدالناصر، لم يحمل أحد صورته ولم يصوت لمن يزعمون صلة به في انتخابات مصر إلا القليل، بل إن المفارقة أن بعضهم لم يعد غير جزء ضمن تحالف يقوده الإخوان المسلمون الذين حاول عبدالناصر إلغاءهم من التاريخ فدخلوا تحت جناحهم لعلهم يحصلون على بضعة مقاعد في البرلمان المصري الجديد الذي اكتسحته الجماعة «المحظورة». حاولت قوة التاريخ العربي أن تخترق حواجز الأنظمة الشمولية وبطشها مرات عدة، ولكنها لم تكن قوية أو ذات خبرة كافية، ربما لم يكن الشعب واعياً بما فيه الكفاية، لم يزل وقتها يحسن الظن في العسكر، العسكر من جهتهم اكتسبوا خبرة في فن «البقاء» في الحكم وليس في فن الحكم، سياسة وقمع وأجهزة تجسس وعلاقات دولية أجلت الاستئناف المبكر لمسيرة التاريخ العربي. الربيع العربي هو انتفاضة على الفقر والبطالة والظلم والقمع وتطلع إلى الكرامة والحقوق، هو كل ما سبق، لكنه أولاً استئناف للتاريخ، المسيرة نفسها التي يعيشها كل إنسان، فالسعي نحو الحرية والمشاركة والرخاء والسعادة قيم مشتركة، لا تتأثر باختلاف الثقافات، إنها مسعى الآسيوي والأفريقي والأميركي اللاتيني، مثلهم مثل دول الشمال التي أكملت هذه المسيرة أو كادت. المستبد، ثائر أو حاكم مطلق، يعلم بذلك، فيشغل شعبه «بالحرب على الاستعمار ومواجهة الإمبريالية العالمية» أو يختار طريقاً مختصراً مباشراً مع شعب يجهل حقوقه، بإعلان أن الديموقراطية كفر وضلال وتتعارض مع الإسلام... منطق كهذا لا يوقف مسيرة التاريخ، إنه يلغي التاريخ.. موقتاً. * كاتب سعودي [email protected]