الأرجح أن الكتابة عن التاريخ، وبالأحرى الكتابة عن كتابة التاريخ، تمثّل معضلة فكرية لا يسهل التصدي لها. ثمة من يستسهل الحديث عن التاريخ و «وثائقه»، وكأن الماضي شيء واضح وجاهز وثابت، تمكن العودة إليه في أي وقت، فيكون دائماً هو نفسه للجميع أيضاً. لا شيء أبعد عن ذلك فعلاً. أدرك العلاّمة العربي ابن خلدون هذه المعضلة بوضوح كبير. وفي مقدمته الشهيرة، لم يتردّد في وصف الكتابة عن التاريخ، بأنها «خبر عن العمران». لم تبد الكتابة عن الزمن الذي غَبَر، في عيني ابن خلدون إذ أدرك أنه يؤسس لعلم لم يكن قد طرقه أحد قبله، سوى خبر يخبره من يتصدى لمهمة الكتابة عن التاريخ. وبدقة، لاحظ أن الإخبار عن الماضي الذي اختفى عياناً، يعتمد على من يخبر ويكتب. ولذا، اشترط إبن خلدون أن يكون كاتب الخبر عن التاريخ، متضلعاً من العمران وشؤونه، باعتبار أن التأريخ إن هو إلا كتابة وإخبار عن العمران البشري. تحضر هذه الإشكالية الخلدونية بقوة، عند قراءة كتاب «تأسيس الإسلام - بين الكتابة والتاريخ» (384 صفحة من القطع العادي) الذي صدر حديثاً عن «دار الساقي». وقد ألّفه ألفريد لويس دي بريمار، الأكاديمي المتخصص في الشؤون الإسلامية في جامعة بروفانس الفرنسية. وعلى طريقة ابن خلدون، ينبري المؤلف الى استنطاق كتابة التاريخ الإسلامي، محاولاً أن يقارنها بمجمل ما يتوافر من «وثائق» عن ذلك التاريخ، مثل الآثار الباقية من أزمنة سابقة على ظهور الدعوة الإسلامية، والمرويات الإسلامية الكبرى ومدوّناتها، إضافة الى التدقيق في المُدوّنات المستندة الى التراث الشفاهي التي تعتبر أساساً في التاريخ المكتوب إسلامياً. والطريف أن «يتقاطع» ابن خلدون وبريمار، في نظرتهما الى الطريقة التي وضع فيها الطبري كتابه الشهير «التاريخ». إذ يأخذ كلاهما عليه تبنيه بعض الأخبار من دون وضعها على محك ما المعرفة عن أحوال العمران والناس. ولربما من المستطاع القول، من دون كثير من المجازفة، بأن كتاب «تأسيس الإسلام» ينفرد في إيلائه أهمية كبرى للنصوص المكتوبة بأقلام المؤرخين المسيحيين (ورجال الدين المسيحيين أيضاً) باعتبارهم كانوا يكتبون عن أحوال البلاد التي فتحها المسلمون ونشروا الدين الحنيف فيها وطبعوها بالطابع المميز لحضارتهم، خصوصاً مع دخول شعوبها الى الإسلام وانخراطها في تاريخه وحضارته. وكان مؤلف الكتاب توفي في 2006، قبل أن يتمكن من مراجعة ترجمة كتابه التي أنجزها عيسى محاسيبي. ويلاحظ أن الكتاب يفتقد للمقدمات التي غالباً ما تمهد للنص الرئيس في المؤلفات المماثلة. ومن المستطاع طرح سؤال عن سبب غياب مقدمة المترجم أيضاً، إذ لا يحتوي الكتاب في ترجمته العربية أي تمهيد لموضوعه سوى العرض الوجيز على الغلاف الأخير للكتاب.