ماذا لو كان ألبرت أنشتاين على قيد الحياة، وواجهه العلماء الجدد بخطأ نظريته القائلة بأن سرعة الضوء هي السرعة المطلقة في الطبيعة، وهي النظرية التي شكّلت لعقود طويلة أساس الفكر العلمي الحديث عن ماهية الكون؟ ماذا لو صعق أتباعه بخبر النيوترينو الذي يسير بسرعة تزيد على سرعة الضوء بواقع أجزاء الثانية، بالتالي ارتكاب معلّمهم خطأ مضلّلاً للعلماء والفيزياء وعلوم الفضاء الأخرى؟ هل كانوا ليقفلوا الطرقات احتجاجاً ويتظاهروا معترضين على المؤامرة التي حيكت ضد معلّمهم أنشتاين، مردّدين «بالروح بالدم نفديك يا ألبرت» و «لعيونك يا ألبرت»؟ هل كانوا لينزلوا إلى الشوارع بأسلحتهم المدججة فيواجهون كلّ من يتجرأ وينادي بالنيوترينو، ويقتلعون لسانه، وينكّلون بعائلته أشدّ تنكيل، ويحطمون كاميرات الفضائيات التي تحاول نقل مشاهدهم هذه؟ كان ذلك ليصبح واقعاً، لو كان أنشتاين ذا جذور عربية أصيلة، ولو خرج يرفع سبابته ويتوعّد هؤلاء «الجرذان» بملاحقتهم «زنقة زنقة، ودار دار». فالعربي لا يقبل معارضة، ولا يعيد النظر، تحت وطأة أيّ ضغط، بما قاله أو فعله أو أكّده. ولا أسمع سياسياً عربياً يعتذر عن خطأ استراتيجي أو وطني اقترفه، في وطن لم يطلب يوماً جردة حساب من حاكم أو وزير، ولا حتى من مختار بلدة... ولم يُسائل شعبٌ مسؤولاً، ولم يسأله يوماً «من أين له هذا؟»، ولم يشكك في نزاهته، ولا في عفّته وطهارته «الوطنية». وفي لبنان، اعتدنا أن يمشي القاتل في جنازة القتيل، وينتحب، ويتقبّل التعازي الى جانب أهل الفقيد، ويدين الجريمة في النشرات الإخبارية مراراً وتكراراً، أما إذا كان القاتل من الذين لا تشملهم «الحصانة الوطنية»، فهذا يجنّبه مشقّة تمثيلية لا يجيدها غير الكبار، ويضعه بين يديّ سجّان رحيم، إذ بشّر القاتل في لبنان بعفو عام أو خاص، ولو بعد حين! يرحل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح من دون اعتذار من أهالي شهداء الثورة، ولا حتى من أهالي الجيش الذي أدخله في حرب أهلية دفاعاً عن كرسيه. وقبله تنحّى الرئيس المصري السابق حسني مبارك مرغماً من دون أن يخطر في باله الاعتذار عن واقعة الجمل البربرية، حين أُطلقت الجِمال في مواجهة الشباب المثقف المعتصم في «ميدان التحرير»، ولا عن دماء خالد سعيد الشاب الإسكندراني البريء الذي سقط على أيدي الشرطة المصرية وكان الشرارة الأولى للثورة المصرية. ولم يفكّر الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي في أن يعتذر عن ضعفه أمام «إدمان» زوجته السلطة والمال. ويذهب بعضهم الى القول ان محافظ درعا لو اعتذر عن سجن صبيان مدرسة وتعذيبهم، لما اتخذت الأمور المنحى الدرامي الذي اتخذته في سورية. وأظهرت الوقائع ان الأنظمة البائدة والمهلهلة مدينة للشعب الفلسطيني باعتذار تاريخي، لاستخدامها قضيته عباءة لإخفاء استبدادها وتسلّطها، وفشلها في إدارة البلاد وإحكام القبضة على أعناق العباد. تلك الأنظمة لم تقدّم لفلسطين غير التواطؤ الصامت، وأوطانٍ خربة ضعيفة لا تجيد الحرب، ولا التفاوض. ثقافة عدم الاعتذار المتأصلة فينا، تترافق وثقافة عجزنا عن قول «لا». العربي يخجل أن يرفض، فيعيش القبول بالإكراه. كأن قاموسنا العربي المتداول لا يتضمن كلمة «لا»... وقد استبدلتها الغالبية بكلمة «سنرى». حتى إذا رفضنا دعوة الى فنجان قهوة، علينا أن نرفق رفضنا بألف عذر وعذر. ومع الوقت صار قبولنا الدائم بكلّ شيء، وأيّ شيء خنوعاً. قبلنا بالاحتلال، وقبلنا بالهزائم وبالديكتاتور... قبلنا بالفساد والرشاوى، وبالجوع والموت على أبواب المستشفيات. لم نعرف كيف نرفع الصوت ونقول «لا»، ولا حتى كيف نومئ ب «لا»، لنصل الى الخلاص. أربعون سنة من المعاناة بصمت، كي نرفض الديكتاتور واستبداده، والسؤال كم من السنين سنضيّع قبل أن نرفض البديل، إذا كان أداؤه مثل سلفه، أو أسوأ! * نائبة رئيس تحرير مجلّة «لها»