هل شهد البشر كارثة أفجع أو مصيبة أوجع من تسلط نُطف شريرة عليهم لا ترى شناعة أو بشاعة في استباحة دماء مجتمعها وإزهاق أرواح أهله وترويع أمنهم، لتبقى حاكمة عليهم متحكمة فيهم مصادرة كلما يحرص عليه البشر من كرامة الإنسان؟ إنه لمشهد مروع أن يسوق فردٌ كلَّ آلاته المعدنية والبشرية - وتحت ظروف معينة تتحول فئات من البشر إلى آلات - لإراقة دم الآلاف من البشر وربما إبادة الكثيرين منهم في سبيل فرض واستبقاء سلطانه وعدوانه. قبل فترة غير بعيدة قال عن الشام أحد من ألقت إليه العبقرية بنصيب وهو الأستاذ سعيد عقل: قرأت مجدَك في قلبي وفي الكتبِ شآمُ ما المجد، أنت المجدُ لم يغبِ. ومن المرجح أن الشاعر يقصد بالشام امتدادها الجغرافي الطبيعي وليس حدودها السياسية، والشاعر لم يُغرِق في المبالغة ولم يبعد عن الصدق في ما قال، ذلك أن تاريخ الشام - في أغلب حالاته وحلقاته - وقريب من ذلك تاريخ اليمن تصديق لما قال الشاعر، وقبل أكثر من 40 عاماً في أحد البلدين، وأكثر من 30 عاماً في الثاني قُدّر لهذين القطرين وأهلهما أن يقعا في قبضة سُلطة سلبت حريتهم ونزعت عنهم كرامتهم تحت شعارات عالية الضجيج والمباهاة من الحديث عن الحرية والكرامة والمقاومة، وقد انطوى الشعبان في كلا البلدين على أرزائهما طيلة هذه المدد حتى بلغ الأمر إلى حال لا يمكن احتمالها من باب: (ولكن تفيض الكأس عند امتلائها). وقد اختار هذان الشعبان أن تكون ثورتهما إنسانية ووسيلتهما في الوصول إلى غايتهما سلمية. لقد أعلنا ذلك واتخذاه منهجاً التزما به منذ اليوم الأول لم يزالا ملتزمين بما اختارا، وفي هذا الاختيار غابت عنهما أهم صفة في من يسطو على السلطة وينفرد بها وهي الشعور والهاجس الذي يلازمه ولا يفارقه بأن حياته وسلطانه متوقفان على بقاء وامتداد قبضته وعدوانه، لذلك لم يكن من المستغرب - بل يجب أن يكون من الحاضر المؤكد - أن يواجه المستبدُّ بهم إنسانيتهم بأسلحة الدمار وسلميتهم بالحديد والنار. وإذا كان مسلك الثائرين يمكن أن يكون مما يُقبل ويُعقل في بدايته من حيث أنه قد يحقن دماءً يجب أن تحقن ويستبقي أرواحاً يجب أن تصان، ومن جانب أن هذا المسلك قد يستجلب لهم العطف من شعوب ويستقطب المناصرة من حكومات، فيكون اختيار هذا المسلك على انه أمل ينبغي أن يُجرّب لا فرض لا يجوز الخروج عليه. إلا أن استمرار المأساة هذه المدة الطويلة التي بلغت الثلاثمئة من الليالي والأيام ذهب خلالها آلاف القتلى وأسر أضعاف هذا العدد وشُرِّد واختفى مثل هذه الأعداد، ومع ذلك يستمر موقف المقاومة في ما اختارته من مقابلة القتل بالسلام، والعدوان بالاستسلام، أمر يتعذر تسويغه أو تفسيره سواء من ناحية سياسة الواقع أو من جانب دواعي الأخلاق. فمن ناحية سياسة الواقع نجد من المسلم به صحة القول: أيا جارتا سفكُ الدماء يحقنُ الدماء وبالقتلِ تنجو كل نفسٍ من القتلِ. والله تبارك وتعالى يقول: «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب». هذه الكلمة ليست دعوة إلى القتل أو إرادة له ولا استثارة إلى الاقتِتال، لكنها دعوة إلى حقن الدماء وإيقاف دولاب القتل والتمثيل بالبشر، إذ ليس يسعد المعتدي ويغريه على عدوانه من أن يجد نفسه يفتك بخصمه حتى ينهكه أو يسقطه بأقل الخسائر والتكاليف، فالأمر هنا دعوة الثائرين للدفاع عن أنفسهم بما يملكون من وسائل. وإذا كان من الإفراط في الجهالة الغفلة عن ذلك الفارق الهائل بين ما يملكه المتسلط من وسائل القتل وعدته والقدرة على أعبائه والإنفاق عليه مما لا يقابله شيءٌ يُذكر لدى الطرف المقابل، فإنه من المعلوم كذلك أن عدداً كبيراً من الثائرين يوجد تحت أيديهم أو علمهم قطعة أو أكثر من السلاح للدفاع عن النفس، لذلك فإن خروجهم عما بدأوا به وألزموا به أنفسهم في ظروف ليس فيها أدنى قدر من التكافؤ يوجبه ويحتمه ما تقدم وما تبين وتأكد من غيبة ظهير أو نجدة نصير. لقد وقفت الدول التي تملك القوة الرادعة ويُظن بها الإرادة المانعة متفرجة على ما يحدث وكأنها تشهد ملهاة لا مأساة وتشاهد مسرحية تُمثل لا واقعاً يعاش، وكأن هذه المأساة التي يصرون على تسميتها «أزمة» - مثل أزمة الماء والكهرباء - ويتابعهم في ذلك الإعلام العربي الذكي مطبوعاً أو مدفوعاً، وكأن هذه الأحداث جاءت لتكشف حظ هذه الدول من الصدق في حديثها عن حرية الإنسان وكرامة الإنسان، وحقوق الإنسان. إنهم يقفون هذا الموقف وهم يشاهدون مسلسلاً من القتل لا يتوقف ومشهداً من المآسي لا ينقطع. يرتفع من هذا البلاء في كل يوم أو نهار بارتفاع عدد القتلى وتيتم الأطفال وترمل النساء وثكل الآباء والأمهات، وهذه الدول القادرة على شلِّ يد المعتدي وإيقافه عن عدوانه تقدم اعتذاراً وتفسيراً من الحجج ما هو أوهى من نسيج العنكبوت. لقد تخلت عن الإنسان في محنته وخذلته في معركته، أما الدول العربية وجامعتها الموقرة ممن تجمعهم بهذه الملايين المنكوبة أقوى ما عرف البشر من روابط وهي - لمن لا يعرفها أو من نسيها - روابط القربى والدم واللغة والدين والتاريخ، فتمنع من توجيه محاسبة أو معاتبة على ذلك الموقف الذي تقفه هو أن لهذا الموقف أو المواقف أسباب لا تخفى، فليس المطلوب من الجامعة وجامعيها الانتصار لمظلوم ومنع القتل عن مقتول بل قبل ذلك، ومع ذلك، الانتصار لذاتها والدفاع عن كرامتها التي عرضتها للهوان حيث ردَّ كل من المتسلط في البلدين كلَّ مبادرة أو محاورة. كان كل ما يفعله أحد الحاكمين بأمره في أحد البلدين أن يرد على كل رجاء أو مبادرة بسطور يكتبها يفرض فيها شروطاً تجهض الاقتراح، أو ما يسمى مبادرة، فتنشغل بهذه السطور الجامعة الموقرة ومن وراءها بالدراسة والبحث والتأمل في إيجاز هذه السطور وإعجازها، ولتجد لها مخرجاً من هذا الإعجاز وحلاً لهذا الإيجاز والوصول إلى مغازيها ومراميها البعيدة، كأنها لا تدرك أنها تعطي في كل مرة مزيداً من الفسحة والوقت للمتسلط لكي يمعن في طغيانه ويستمر في عدوانه. والذي حدث مع الأول يتكرر مع الثاني، لقد أشهدهم وأشهد العالم معهم على مدى احترامه لما وقع عليه من أوراق وما تظاهر بقبوله من اتفاق حين أعلن في يوم توقيعه إعلاناً عالمياً ضاجاً على أنه يستخلف عنه في مكانه وسلطانه من أبنائه وأقاربه وأعوانه من يقوم بمهمته ويواصل مسيرته، وقد حدث ذلك بالفعل. ومنذ أسابيع لم يزل هؤلاء الأعوان المستخلفون الحاكمين بأمرهم مؤدين ما أتمنوا عليه وما زال الموقّع المسيطرَ عليهم الموجِّه لهم، لذلك لم يكن غريباًَ أن يكون شعار الثائرين في الشام في يوم الجمعة الأخيرة 16/12/2011 «الجامعة العربية تقتلنا»، وهم في هذا ليسوا ظالمين للجامعة، لكنهم واصفون موقعها منهم وموقفها تجاه قضيتهم. إنه من المحزن والمؤلم ألا يجد المرء تفسيراً لذلك وقد يرفض تفسيراً لذلك قول المتنبي: من يهن يسهلِ الهوانُ عليه ما لجرح بميت إيلام في نهاية هذه العجالة أجد مما يجب ويُحب إزجاء الكثير من التقدير والإعجاب لأولئك الأفراد من الجيش الذين تتقد في ذواتهم تلك الجذوة النبيلة من حب الإنسان والانتصار له والدفاع عنه، فانشقوا على عصابات قتل مواطنيهم وانضموا إلى صفوف المدافعين عنهم. أما أنتم أيها الأعزاء أيها الثائرون - مع التقدير الذي لا ينتهي لتضحياتكم وفدائكم -احذروا، احذروا، فإن الانتحار ما كان ولن يكون فضيلة، كما أنه ليس أنجع السبل إلى الانتصار. * كاتب سعودي