ما وُصف «بالسجال الحاد» بين نائبين، كتائبي وآخر من «حزب الله»، في مجلس النواب اللبناني، يلخص التراكمات التي توقف المجتمع اللبناني المقسم عن إعادة تدويرها وعن الإخفاق في إدراجها في سردية واحدة للعلاقات بين الجماعات. تطور السجال إلى تبادل للإهانات- على ما هو معروف- في جلسة برلمانية كان المفترض بها مناقشة أسئلة وجهها النواب إلى الحكومة. نرى أولاً، النائب عن حزب الكتائب، سامي الجميل، معيداً مضمون سؤاله النيابي، محتجاً على محاولة «حزب الله» مد شبكة اتصالاته إلى قرية ترشيش الواقعة في أعالي المتن. غني عن البيان أن القرية بعيدة جداً عن خطوط المواجهة مع إسرائيل وأن سكانها ليسوا من الطائفة التي ينتمي أعضاء «حزب الله» إليها. بكلمات أخرى، كان الجميل يحتج على خروج الحزب المتنكب عبء المقاومة من إطاريه الجغرافي والطائفي المحددين له ضمن التفاهمات غير المكتوبة بين الجماعات اللبنانية. أتبع الجميل شكواه هذه باحتجاج على ما كان أعلنه مسؤول في «حزب الله» عن القيام بعمليات مراقبة «للعملاء» في مناطق مسيحية بعيدة أيضاً عن الأطر الجغرافية المعروفة للمقاومة. في رده، استعرض النائب نواف الموسوي كل ما يمكن وصفه بالعنجهية والغطرسة في خطاب جماعة مسلحة تولت أجزاء كبرى من السلطة السياسية والأمنية في بلد شديد التنوع. لكن ككل خطاب متغطرس، لم يزد كلام الموسوي عن أنه ستار رقيق يخفي كمية هائلة من الارتباك والخوف في مواجهة عالم عربي يغلي بالتطورات التي ما زال شبان الميادين والتظاهرات في مصر وسورية واليمن يصيغونها. لجأ الموسوي إلى استحضار «تاريخكم» في التعامل مع إسرائيل. من دون أن يحدد إذا قصد تاريخ آل الجميل الذين جاء منهم رئيسان للجمهورية «على ظهور الدبابات الإسرائيلية» بعيد اجتياح لبنان عام 1982، أو حزب الكتائب اللبنانية الذي دشن تعامله مع إسرائيل في المراحل الأولى للحرب الأهلية، وفق ما أورده بعض مسؤولي الحزب في كتب وضعوها قبل أعوام طويلة. وسامي الجميل، بصفته عنصراً قيادياً في الحزب، وابن الرئيس السابق أمين الجميل وحفيد مؤسس الكتائب بيار، يتحمل، من وجهة نظر الموسوي، جزءاً من المسؤولية عن تاريخ الحزب في تعامله مع «الشر المطلق» إسرائيل. غني عن البيان، أن آراء الموسوي القانونية والدستورية متهافتة. «فالشرعية الدستورية» التي قال النائب المحب للثقافة، بدليل ترجمته بعضاً من أعمال المفكر الفرنسي هنري كوربان، عن التشيع والتصوف الشيعي، هذه الشرعية لا تصدر عن البيانات التي تدبجها الحكومات غداة تأليفها. والشرعية، بكل أشكالها من المسائل الشديدة الأهمية في أي بنية قانونية وسياسية ويحتاج تبنيها وتعميمها إلى توافقات عريضة الأرجح أنها غير متوافرة اليوم في أي شأن لبناني عام، خصوصاً في شأن سلاح «حزب الله». لذا، يجوز القول إن الشرعية شديدة الندرة في الواقع اللبناني الحالي. وجليّ أن «التاريخ» الذي يحيل الموسوي عليه، هو التاريخ الذي تتخيله جماعته السياسية والطائفية للآخرين وتصوغه وتلبسه لهم، من دون أن يكون لهؤلاء حق في تقديم روايتهم لتاريخهم. وأغلب الظن أن العنجهية التي تميز مسؤولي الحزب منذ انتصارهم الإلهي، عام 2006، لا تتيح لهم رؤية الأمور بنسبيتها ومقارنتها مع تواريخ الآخرين وفهم معاناتهم. لقد صاغ الوعي الانتصاري - الظافري (وفق عبارة ياسين الحافظ) ل «حزب الله» قصة بات مقتنعاً أنها تختصر بداية الخليقة ونهايتها. تقوم القصة هذه على أن الحزب انتصر على مؤامرة كونية كانت ترمي إلى طرد أبناء الطائفة الشيعية من الجنوب اللبناني. الغاية من ذلك هو استبدالهم بالفلسطينيين الذين تريد إسرائيل توطينهم ما وراء حدودها الشمالية لحراسة هذه الحدود وتسوية القضية الفلسطينية على حساب الشيعة اللبنانيين. تشبه هذه «الحدوتة» إلى حدود النسخ، تلك التي كان حزب سامي الجميل يروجها في السبعينات عن مؤامرة عالمية، لا تقل اتساعاً عن تلك التي تعشش في عقول عناصر «حزب الله»، لطرد المسيحيين من لبنان لإقامة «الوطن البديل» الفلسطيني. لم تكن قصة حزب الكتائب قبل ثلث قرن صحيحة، وليست القصة التي يخيف «حزب الله» وأنصاره أبناء الطائفة الشيعية اليوم، صحيحة أيضاً. واستطراداً يمكن القول إن القصة المؤسسة لهذا الذعر الطائفي، أي الخوف الدرزي من التمدد المسيحي إلى جبل لبنان الجنوبي بين 1840 و1860، لم تكن تلك القصة صحيحة أيضاً. الأمر الحقيقي في هذه القصص أنها أدت إلى حروب أهلية أزهقت أرواح مئات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين. والقصص هذه كلها بأصلها الواحد (الانغلاق على الذات وإقصاء الآخر)، ورغم افتقارها إلى الأسانيد الواقعية وإلى القدرات اللازمة لتحويلها حقائق مادية، ما زالت شديدة الجاذبية بمعنى النجاح في حشد أعداد من الخائفين وراء القيادات التي تعتلي ظهور الخائفين بمزاعم الحماية والدفاع. بل إن القصص المذكورة، تقع في صميم «تحالفات الخائفين» من الأقليات وأهم تعبير عنها هو «تفاهم مار مخايل» بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر». وكان على الموسوي الذي يأخذ على الجميل تعامل حزب الكتائب مع إسرائيل، أن يتساءل عن مظاهر لا تزيد احتراماً بكثير، انغمس فيها أهل المناطق اللبنانية المحتلة، بتنوع طوائفهم، منذ الأيام الأولى لدخول القوات الإسرائيلية، ترحيباً بالمحتل وتطوعاً في قوات عملائه وانخراطاً في أجهزته الأمنية. الرد المتوقع هو أن العمالة «لا دين لها». بيد أن الحكمة هذه لا تكفي لصوغ وعي وطني يرتقي عن مستوى السفاهات التي ما زالت تجد من يصدقها وينشرها.