بعد الإدانة التي أعلنتها جامعة الدول العربية للإجراءات القمعية الموغلة في العنف، التي تمارسها السلطات السورية في اندفاع متهور، ضد المواطنين السوريين المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، في مدن وقرى سورية عدة، جاءت الإدانة هذه المرة، من منظمة التعاون الإسلامي في أعقاب الإدانة التي أعلنتها لجنة حقوق الإنسان في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والإدانات التي جاءت من مجلس التعاون لدول الخليج العربي، ومن تركيا، ومن الاتحاد الأوروبي، ومن الولاياتالمتحدة الأميركية، وجميعها مقرونة بدعوة دمشق إلى وقف تقتيل الشعب السوري، وسحب الدبابات والمدرعات من المدن، والعدول عن الممارسات القمعية التي ثبت فشلها، والتي تزيد من تدهور الوضع الأمني إلى درجة مرعبة، وتوسع من الفجوة بين النظام والشعب، مما يقطع باستحالة الوصول إلى تسوية، على أي مستوى كان، في ظل الوضع السوري الحالي، تساهم في العودة بالبلاد إلى حالة من الهدوء والاستقرار. ولا يتردد المراقبون في القول إن الأوضاع في سورية وصلت إلى أقصى حالات التدهور والانهيار، بسبب من عدم استجابة النظام السوري لما عرض عليه من خطط للإنقاذ، وقدم له من نصائح للعمل بها للخروج من الأزمة، سواء من جامعة الدول العربية، أو من تركيا الدولة الجارة التي كانت إلى عهد قريب على علاقة ممتازة مع دمشق وتربطها بها اتفاقيات تجارية واقتصادية عدة، ودخلت معها في ما يسمى بالتعاون الاستراتيجي الشامل. ولكن النظام السوري، وبسبب التخندق الطائفي المقيت، أبى إلا أن يمضي مصمماً، في سياسة القتل والبطش والتعذيب، وتعريض البلد لنكبات وكوارث وأزمات لا يبدو أنها ستنتهي، والمنطقة برمّتها لتداعيات خطيرة لا يعرف مداها. لقد ناشد عدد من الحكماء والعقلاء، خلال الشهور الأخيرة، النظام السوري أن يكف عن ممارسة الإجراءات القمعية ضد الشعب السوري، وأن يبادر بالشروع في تنفيذ الإصلاحات التي يطالب بها الشعب وينصح بها الأشقاء والأصدقاء. ولكن النظام السوري لا يزداد إلا عناداً وتصلباً، وامتناعاً عن سماع النصائح، وإمعاناً في البطش والقتل والقمع على نطاق واسع شمل كل المناطق، في الجنوب والشمال والوسط والشرق، في مأساة مروعة لم تنته فصولاً. فقد أعمت الروابط الطائفية بصيرة متخذي القرار عن رؤية المسار الصحيح المنقذ للوطن وللدولة. إنها مأساة مروعة من المآسي التي مني بها العرب والمسلمون في هذا العصر، مأساة تعيشها دمشق التي يحرص النظام في سورية، على أن يصفها بقلب العروبة النابض، بينما هي اليوم قلب العروبة العليل الذي لم يقبل طبيباً عربياً يعالجه. فالوصفات التي يستخدمها هي ذات نكهة غير عربية وطائفية بامتياز. فإلى أين يتجه الوضع السوري؟ وإلى أين يسير النظام بهذا الشعب النبيل المتحضر، وبهذا البلد العربي المسلم العريق الأصيل؟ إن هذا هو السؤال الذي يطرحه الحريصون على المصلحة العليا للشعب السوري وللدولة السورية، والغيورون على سمعة الأمة العربية الإسلامية التي نالها ضرر كبير من جراء استفحال الوضع في سورية إلى هذه الدرجة غير المسبوقة من التقتيل والتعذيب وترويع المواطنين والاعتداء على مقرات البعثات الديبلوماسية، وعلى الأشقاء، سواء المقيمين منهم أو العابرين، في غطرسة وغرور وعنجهية لا تليق بالمسؤولين الذين يقدرون مسؤوليتهم ويعرفون ما يفعلون. إن العالم كله، ما عدا دولاً قليلة لها حساباتها الخاصة، يستنكر بقوة ما يرتكب في سورية من جرائم فظيعة ضد الإنسانية يجرّمها القانون الدولي، في تحدّ كبير للقيم الإسلامية وللشيم العربية ولمبادئ حقوق الإنسان وللقوانين الدولية. ومما يحز في القلب ويملأ النفس حزناً وشجناً، أن هذه الجرائم غير المعهودة، ترتكب في بلد عظيم كان له الدور الكبير في بناء الحضارة العربية الإسلامية التي أشعت على العالم كله، والتي كانت رافداً غنياً للحضارة الإنسانية الحالية، وأن هذا الرصيد الحضاري الذي ساهم الشعب السوري في إغنائه عبر العصور، وفي تمازج بين مختلف الأجناس التي استوطنت هذه الأرض الطيبة، وفي تلاقح بين شتى الثقافات والحضارات التي سادت في ربوعها، يوشك أن ينفد حين ينضب معين الينابيع المترقرقة التي تفجرت ثقافةً ومعرفةً وإبداعاً وحضارة في العصور المتعاقبة. لقد آن لهذا الشعب النبيل الأبيّ أن يتحرر من مستنقع الطائفية وسياسات القمع والتقتيل المجاني، وأن يأخذ طريقه نحو الحرّية والكرامة والعزة والعدالة الاجتماعية وبناء الدولة الديموقراطية الحرة المستقلة، وأن تتدفّق طاقات هذا الشعب العربي العظيم، لتجديد البناء من أجل النماء في ظل الانتماء، قبل أن تتخذ الأمور مساراً آخر يُتيح للغرباء التدخل المباشر الذي ضرره أكبر من نفعه. * أكاديمي سعودي