إذا كان ثمة من أديب يمكن أن نشبه فيلم لوكينو فيسكونتي «روكو واخوته» بأعماله، وتحديداً بجوهر أعماله، فإن هذا الأديب لن يكون سوى نجيب محفوظ، ولا سيما محفوظ في أعماله الأولى الأكثر ارتباطاً بنزعة تقف بين الواقعية الاجتماعية والطبيعية - على طريقة اميل زولا -، أعماله الممتدة من «بداية ونهاية» الى «الثلاثية» مروراً ب «خان الخليلي» و «القاهرةالجديدة» حيث يقدم المجتمع وتغيراته من خلال شخصيات (وأحياناً عائلات بأسرها) تعيش سقوطها الاجتماعي بالترابط مع الأوضاع الاقتصادية والتغيرات الجغرافية. ونحن هنا نبدو وكأننا نصف، من خلال عوالم نجيب محفوظ تلك وشخصياته، فيلم «روكو واخوته» وان كانت المسحة الانتقالية هنا، في الفيلم الإيطالي، تحدث على رقعة جغرافية أوسع بكثير مما في روايات محفوظ. فالذي يحدث في «روكو واخوته» هو ان عائلة باروندي، تضطر حين يموت الأب والمعيل مبقياً أسرته من دون قدرة على اعالة نفسها بنفسها في ذلك الجنوب الإيطالي الفقير، فتضطر العائلة المؤلفة الآن من أم وأبنائها الأربعة للهجرة الى الشمال، الى ميلانو، حيث احتمالات الرزق أكبر، وحيث كان قد سبق العائلة الى هناك واحد من الأخوة هو فنشنزو، باحثاً عن رزقه في زمن سابق وها هو الآن في انتظارهم هناك. هذه الهجرة العائلية هي، كما نرى، هجرة داخلية، حيث إن أفراد العائلة الخمسة، يتوجهون الى عاصمة الشمال المزدهرة... لكنها في الحقيقة هجرة كما كل الهجرات التي تنقل البؤساء من الجنوب الى الشمال باحثين عن فرحهم، حيث ليس ثمة في حقيقة الأمر ما يجمع بين المنطقتين... والمعروف في هذا المجال ان التفاوت في التطور والثروات بل حتى في الذهنيات، يزيد بين جنوب ايطاليا وشمالها، عنه في أي بلد في العالم. غير ان علينا ألا نفترض هنا أن فسكونتي انما أراد أن يقدم فيلماً سوسيولوجياً انثروبولوجياً. لو كانت هذه هي رغبته لكان من السهل اعتبار «روكو واخوته»، حلقة مكملة لفيلمه «الواقعي الجديد» الأول «الأرض تهتز» - والذي أسس لذلك التيار السينمائي الذي سيكون هو، فسكونتي، أول معلني موته قبل تحقيق «روكو واخوته» بزمن. أجل، في مظهره الخارجي يبدو عمل فسكونتي هذا مركّزاً على النواحي الطبقية، غائصاً في تفاصيل واحدة من الأزمات الكبرى التي تنهش في جسد ايطاليا، في سنوات الخمسين من القرن العشرين على الأقل. غير أن تأملاً داخل الفيلم وفي لغته وتشابك العلاقات بين شخصياته، سيقول لنا على الفور، ان هذا الفيلم - وعلى عكس ما يحدث، مثلاً، في «الأرض تهتز» - لا يشتغل على مستوى الفضح الاجتماعي والصراع الطبقي، بل على مستوى سيكولوجية الأخوة الذين ينتمون الى الطبقة نفسها، يعيشون البؤس الاجتماعي نفسه. فالصراعات هنا هي صراعات بين الأخوة، والتفاوتات تقوم بين هؤلاء بعضهم بعضاً... ما يجعل الفيلم يبدو في نهاية أمره انطباعياً، يدنو من سينما جان رينوار، الذي لا بأس ان نذكّر هنا بأن فسكونتي كان أصلاً قد عمل لفترة معه قبيل الحرب العالمية الثانية بتوصية في كوكو شانيل أسطورة عالم الأزياء الفرنسي وسيدة المجتمع الفني في ذلك الحين، بل، حتى، قد يكون في امكاننا ان نقول أيضاً إنه فيلم وعظي أخلاقي في جانب من جوانبه، حيث ان المخرج، إذ يقرر في سياق الفيلم أن يتعاطف مع إحدى شخصياته، فإنه انما يتعاطف مع تشيرو، الذي كان يجدر باسمه أن يتصدر العنوان، لا اسم روكو، لأن تشيرو هو الوحيد، ذو السمات الإيجابية في الفيلم، والذي غالباً ما نراه منكباً على القراءة بعد حصوله على وظيفة عامل في شركة ألفا روميو، مكتسباً في طريقه وعياً سياسياً واجتماعياً هو الذي مكنه، ليس فقط، من رسم بصيص أمل ما للأسرة في نهاية الأمر، بل كذلك من أن يقول للقارئ، إن ثمة طريقاً ما، ان لم يكن لإخراج المرء من بؤسه، فعلى الأقل لتوعيته بالأسباب الحقيقية لهذا البؤس. في شكل من الأشكال قد يبدو هذا «الوعظ» الذي به يختتم الفيلم، مقحماً عليه، لكنه يبدو ضرورياً كي يبدو الفيلم مترابطاً وذا منطق. والحقيقة إذا كان ثمة كثير من العناصر، في هذا الفيلم، التي تذكر ب «بداية ونهاية» لكاتبنا العربي الكبير نجيب محفوظ، فإن هذه الرواية المحفوظية، والتي كتبت قبل عقدين من تحقيق فسكونتي فيلمه الذي كتبه بنفسه عن فكرة لمساعدته سوزو تشيكي - اميغو، تبدو أكثر سوداوية بكثير - ولمَ لا نقول هنا: أكثر فسكونتية بكثير - من فيلم فيسكونتي، ولا سيما من ناحية سوداوية نهايتها وفقدان كل أمل، حيث إن عائلة «محفوظ» حين يخيل اليها ان انتقالها الجغرافي، داخل القاهرة، من عالم الى آخر، سيساعدها على تجاوز الفقر والضعة الاجتماعية، تسقط في نهاية الأمر، صريعة بؤسها واستحالة الخلاص... فيما يقدم لنا فيلم فسكونتي أكثر من وسيلة للخلاص، بما في ذلك تسليم واحد من الأخوة الى الشرطة لارتكابه جريمة، وتحديداً على يد واحد من اخوته. في فيلم «روكو واخوته» - تماماً كما في «بداية ونهاية» - تعطى الأم مكانة أساسية في قيادة الأحداث والسيطرة على العائلة، منذ اللحظة التي يموت فيها الأب (هو في العملين يفتتح العمل بموته، ما يكشف عن هشاشة الوضع المالي والمعيشي الذي أورثه لزوجته وأبنائه). وفي العملين ثمة محور أساس يتحلق من حول أنثى تصبح مومساً بفعل الأوضاع الاجتماعية، لكنها، فيما تكون شقيقة الأخوة هي هذه المومس في «بداية ونهاية»، نجدها في «روكو واخوته» فتاة الليل ناديا، التي يجري من حولها صراع دام بين سيمون وروكو. وهو صراع ينتهي بقتل سيمون لها وفراره من البوليس حتى تسلّم الشرطة له من طريق أخيه... غير أن هذه الجريمة والأحداث التي ترتبط بها، لا تبدو قادرة على جعل فيلم «روكو واخوته» فيلماً متمحوراً حول حدث مركزي ما. ذلك اننا هنا، بعد كل شيء، أمام فيلم ينتمي الى النوع المسمى «الملحمة العائلية» (وهو نوع أوصله توماس مان الى ذروة في روايته «آل بودنبروك» التي يمت اليها عالم أدب نجيب محفوظ ولا سيما ثلاثيته، بصلة نسب واضحة، ما يدفعنا هنا الى الإشارة - في طريقنا - الى ان لوكينو فيسكونتي نفسه، كان منذ أواسط الخمسينات من القرن العشرين، لا يكف عن ابداء رغبته في تحويل رواية توماس مان هذه، الى فيلم سينمائي، ثم أبدلها أوائل السبعينات بأفلمة رواية أخرى لمان هي، طبعاً «الموت في البندقية»، لكن هذه حكاية أخرى). المهم هنا هو أن فيسكونتي قدم في «روكو واخوته» عملاً سينمائياً كبيراً، جمع فيه عدداً من الممثلين الكبار، من كلوديا كاردينالي الى آني جيراردو، ومن آلان ديلون الى ريناتو سالفاتوري، مستخدماً موسيقى نينوروتا، الذي سيصبح لاحقاً واحداً من كبار مؤلفي الموسيقى السينمائية، وواحداً من أبرز المهتمين بجعل موسيقى الفيلم تعبر عن دواخل سيكولوجية الشخصيات. فأتى الفيلم عملاً كبيراً... وذلك على رغم ان استقباله حين عرض للمرة الأولى سنة انجاز الفيلم (1960) في مهرجان البندقية كان بارداً - ومع هذا نال الجائزة الكبر شراكة مع فيلم فرنسي لأندريه كايات يبدو منسياً تماماً اليوم، فيما يعتبر «روكو...» واحداً من أفضل عشرين فيلماً أوروبياً حققت خلال النصف الثاني من القرن العشرين. كذلك كان بارداً استقبال النقد الفرنسي له... ويبدو أن هذا البرود نبع من سوء تفاهم، كان يفترض أن على لوكينو فيسكونتي (1905 - 1976)، أن يعلن صراحة ان فيلمه هذا ينتمي الى الواقعية الجديدة، ناسياً ان فيسكونتي نفسه كان أعلن موت هذه الواقعية قبل ذلك بسنوات عدة، بل ربما منذ انتهى من تصوير أول فيلمين له، معتبراً ثانيهما «الأرض تهتز»، بداية ونهاية انغماسه في ذلك التيار، الذي كان يراه مؤدلجاً بأكثر مما تحتمل سينما فنان ارستقراطي يبحث عن الجمال ويمضي جل وقته في اخراج الأوبرات الضخمة. [email protected]