كابوس التحقيق في المستشفيات و"الجرجرة"، ومن ثم في السجن، من الأمور التي تنتظر فاعل خير أو سائق بريء جعلته مشاعره الإنسانية يهب بنخوة لإسعاف مصاب في حادث سير. "بدأ الكابوس بساعات من الانتظار القسري في المستشفى التي نقلتُ إليها ضحية حادث سير طائش لا نب لي فيه. أجبروني على انتظار دورية الشرطة ريثما تصل وتبدأ اتخاذ إجراءات التحقيق"، يروي سائق تكسي تجربته. ويضيف: "غلطنا وأسعفنا سيدة كانت تستغيث على حافة الطريق بعدما صدمتها دراجة نارية، وبدل الشكر على المعروف كان جزائي أن أصبحت مشتبهاً به وحملت وزر الجريمة عن مرتكبها الحقيقي!". لا خيار حسب القانون أمام الأطباء والإداريين في المشافي العامة والخاصة في سورية إلا الاشتباه بالمسعِف (أو فاعل الخير)، مذنباً كان أم بريئاً، وحجز هويته وحريته، ريثما تأخذ العدالة مجراها. والأمناء على العدالة في هذه الحالة، هم ضباط الشرطة المخولون سلطة تقديرية، إما بتوقيف المسعف إلى أن يتم التأكد من براءته، أو إحالته على القضاء والمحاكمة بعد إثبات تورطه، ورغم تعميم تعليمات من وزارة الداخلية في سورية، تشدد على حسن معاملة كل من يساعد أو يُنجد أي مصاب، كالتعميم الصادر بتاريخ 20/2/2000، الذي ينص على الاكتفاء بأخذ تصريح من المسعف خلال دقائق فقط من وصوله إلى المشفى أو المكان الذي نقل المصاب إليه، من دون اتخاذ أي إجراء بحقه، إلا إذا صرح تلقائياً بأنه مسبب الحادث، وأن أي تأخير في ذلك يعرض عناصر الشرطة المسؤولين إلى أقصى العقوبات المسلكية. ولا يزال المسعفون يعيشون الكابوس المرعب نفسه، حتى عندما يسقط المصاب حقه ويعترف للشرطة بأن المسعف ليس مذنباً، يصر الكثير من رجال الشرطة على استخدام سلطتهم "التقديرية" لتوقيف هذا المسعف المسكين، وتحويله للنيابة العامة، كي يأخذ "الحق العام" مجراه وليتم إحقاق العدالة. وبين صوت الضمير اليقظ وأحكام قانون السير والمركبات رقم /31/ لعام 2004، والمعدل بالمرسوم التشريعي رقم /11/ لعام 2008، الذي ينص على غرامة 2000 ليرة سورية، كعقوبة على "عدم إسعاف" المصاب من قبل سائق مركبة أخرى شاهد الحادث"، يقف السائق عاجزاً عن الاختيار بين أمرين أحلاهما مر. كيف لا، وأمام هذه الثغرات يضيع حق البريء ويفلت المذنب الحقيقي، أمام هذه الثغرات ترسخ ثقافة "كل واحد عليه من حالو". "أمضيت ثلاثة أيام موقوفاً على ذمة التحقيق لأني أسعفت طفلاً مصاباً، لا ذنب لي سوى أنني استسلمت لعواطفي وشفقتي على المصاب المسكين الذي اعترف مراراً وتكراراً بأنني لم أدهسه"، يروي سائق آخر بتهكم، "ومن يومها، تعهدت على نفسي أن أغمض عيني وقلبي عن مساعدة أي مصاب". وإذا كان هذا حال المسعف البريء في السوء، حظ ذلك المسعف المذنب، يروي سائق سيارة أجرة: "أسعفت سيدة إلى أحد المشافي بعد أن رمت بنفسها على الطريق أمامي. ورغم اعترافها بخطئها وتأكيدها للشرطة أنني لم أدهسها عمداً، أمضيت أسبوعا "جميلاً" وآخر "رواق" في السجن. لو لم أسعفها وتركتها مرمية على الطريق كنت نفدت بريشي. فهل هذا ما يريدونه؟". ويذهب الأمر إلى أكثر من ذلك، إذ نشرت إحدى الصحف المحلية خبر إقدام سائق على رمي جثة طفل دهسه بالخطأ في النهر، تجنباً لجرائر القيام بإسعافه... فضلاً عن تلك الأمثلة الكثيرة لمن يدفعه خوفه لترك المصاب في مكان الحادث بدل الهرع لمساعدته. فهل من يدرك عواقب ترك مثل هذه المساحة "التقديرية" لنزوات الكثيرين من رجال الشرطة، بدلاً من تنظيمها بقانون يشجع الناس على فعل الخير ويحمي المسعف من التوقيف والسجن، من خلال الاكتفاء مثلاً بحجز بطاقته الشخصية ريثما تكتمل التحقيقات، خاصة وأن سلامة المواطن من المفترض أن تأتي في الدرجة الأولى، وأن من الطبيعي أن يحث القانون الناس على التصرفات الأخلاقية والسليمة، بدل أن يحارب ضميرهم ويحبط عزيمتهم ويضع كل مسعف موضع اتهام إلى أن تثبت براءته!