مع إلقاء القبض على سيف الإسلام القذافي وعبدالله السنوسي، رئيس الاستخبارات في النظام الليبي السابق، يمكن القول ان القذافيين رحلوا عن المسرح السياسي ولكن القذافية ستبقى معنا لفترة من الزمن. فليس من السهل ان ينسى العالم مشاهد القتل والرعب والدمار التي اقترنت برحيل القذافي وسقوط نظامه، ولا ان يغيب عن الاذهان ما خلفته ظاهرة القذافية من أضرار عظيمة في ليبيا والمنطقة العربية. وستبقى هذه الظاهرة موضوع مناقشات ومراجعات مكثفة الى ان تصبح أثراً من الماضي البعيد. وفي مساهمة في ترحيل القذافية وتنقية ليبيا والمنطقة العربية من آثارها وتداعياتها السلبية، نظم «مركز دراسات الوحدة العربية» حلقة نقاشية في بيروت بعنوان «ليبيا بعد القذافي» ضمت عدداً محدوداً من المثقفين والمثقفات العرب. وتداول المجتمعون في جوانب متعددة من حكم القذافي ونظامه السياسي و «فكره» المجتمعي. ويجد المرء نفسه، في ضوء المداولات والمناقشات التي أُجريت في الحلقة، وغيرها من النقاشات التي تجرى في مناسبات اخرى حول شخصية حاكم ليبيا السابق أمام صورتين متناقضتين له. عندما يراجع المرء الخطابات والاتهامات النارية التي كان يرمي بها القذافي كل ما يمت الى الوضع العربي الراهن بصلة، بما في ذلك الحكام والمعارضات بل وحتى الشعوب ومكوناتها البشرية، عند ذلك، يخيل اليه ان القذافي كان عدواًَ لا يرحم للوضع الراهن. وعندما خاطب القذافي القادة العرب في قمة دمشق عام 2008 بأسلوب استعلائي وصلف فقال لهم ان الدور - بعد صدام - «سيأتي عليهم»، بدا وكأنه خارج عن صف القادة وأنه شيء يختلف عنهم. وعندما كان القذافي يخطط ويأمر بقتل الزعماء العرب، ظهر وكأنه في صدد تهديم الوضع العربي الراهن برمته. في المقابل، فإنه عندما وضعت الانظمة العربية على المحك ولما دخل نظاما مبارك في مصر وزين العابدين في تونس مرحلة الاحتضار، بذل القذافي كل جهد من اجل انقاذهما. وعندما سقط النظامان ذهب القذافي الى حد لم يذهب اليه احد من الزعماء العرب في الدفاع عن «المبارك» وعن «الزين». فهل كان هذا الموقف تعبيراً عن علاقة شخصية واستثنائية كانت تربطه برئيسين سابقين دأبا على دغدغة مشاعر الغرور والعظمة التي كانت تتملكه؟ ام كان مؤشراً على مصلحته الموضوعية في استمرار الوضع العربي الراهن، وعن حماسه المستتر للحفاظ عليه؟ ان هذا الموقف الاخير تجاه حاكمي مصر وتونس السابقين كان فصلاً عارضاً في علاقة القذافي بالوضع العربي الراهن، ولكن نظرات القذافي في الحكم والسياسة، وممارساته على امتداد 42 عاماً في السلطة التي جرى التوقف عندها في الحلقة النقاشية المشار اليها اعلاه، كانت هي الاساس في تحديد علاقته بالوضع الراهن. هذه النظرات جعلت القذافي يتصور انه مختلف اختلافاً كبيراً عن الحكام الآخرين. فهؤلاء هم من صنف البشر، اما هو فإنه كان يضع نفسه في مرتبة الأنبياء والمرسلين، بل وحتى الآلهة، كما اشار احد المشاركين في الحلقة النقاشية! من هنا جاء حرصه على التداول بالأفكار واختلاق منظومة فكرية وضعها في «كتابه الاخضر». يقال هنا ان القذافي تأثر بجان جاك روسو في كتابه «العقد الاجتماعي»، او بالاحرى بما فهمه - بعقله البدائي وإدراكه المحدود - من قراءة نص الكتاب مترجماً الى العربية. اعجب القذافي بالفقرات والجمل التي انتقد فيها المفكر الاوروبي الديموقراطية النيابية والاحزاب السياسية، واعتمدها في «كتابه الاخضر» وخطاباته. كذلك اعجب العقيد بنظريات بعض المفكرين الاوروبيين الفوضويين من امثال برودون وباكونين، وقد تسربت اليه هذه الافكار عبر بعض المثقفين العرب وغير العرب الذين كانوا يزورونه ويحاورونه ويمدونه بزاد يسمح له باحتلال مراتب الملهمين وأصحاب الرسالات. ولكن العقيد بهمّة اولئك الاصدقاء، قلب روسو والمفكرين الفوضويين على رؤوسهم! لقد كان المفكرون الاوروبيون الذين استعار القذافي نظراتهم اطرافاً في مناقشات مستمرة بين جماعات سياسية رمت الى حماية المواطنين والمدنيين من الدولة ومن سائر السلطات المدنية والدينية، وحماية حقوق المواطنين على انواعها، بما في ذلك الأمان واختيار النظام السياسي الافضل لضمان هذه الحقوق. وطالب روسو بالديموقراطية المباشرة على اساس ان الديموقراطية النيابية تمنح الممثلين المنتخبين المجال لتجاهل ارادة اولئك الذين انتخبوهم وفوّضوهم بالتعبير عنهم وعن مصالحهم. وكان اساس هذه المطالبة الحرص على حرية المواطنين وحقهم في المشاركة المباشرة في ادارة شؤون الدولة. وذهب الفوضويون في الدفاع عن المدنيين وعن حقوقهم الى ابعد مما ذهب اليه روسو، اذ كانوا يعتبرون ان وجود الدولة والمؤسسات والبيروقراطيات يشكل في الاساس خطراً على حرية المواطنين والمساواة بينهم. لذلك طالبوا بل وعملوا على إلغاء الدولة بمؤسساتها والاحزاب. القذافي اصطف مع اولئك المطالبين بإضعاف الدولة وتهميشها، وبإلغاء الاحزاب والنقابات والجماعات المنظمة وتحريمها. وكان يقول انه فعل ذلك دفاعاً عن المواطنين وحرصاً على حريتهم من ديكتاتورية الاحزاب وتسلط القلة. ولكن الحافز الحقيقي لهذا الموقف لم يكن حرصه على حرية المواطنين، مجموع المواطنين او المواطنين كأفراد، بل كان حرصاً على حريته هو غير المحدودة في تحديد خيارات الليبيين ومصائرهم. فوفق نظام الديموقراطية المباشرة، كان من المفروض ان تتحول ليبيا في ظل القذافي الى دولة عصرية، وأن تزدهر فيها الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والحريات الفردية، وأن تجرى فيها الانتخابات لاختيار ممثلي الشعب، في الوقت نفسه الذي تجرى فيه الاستفتاءات المستمرة وعلى كل المستويات المحلية والعامة من اجل اتخاذ القرارات الجزئية والعامة. وكما هو معروف، فإن هذا النوع من الديموقراطيات ليس حالات افتراضية، بل هو مطبق فعلاً في سويسرا، ولكن مع فارق مهم بينها وبين ليبيا. ففي الدولة الاوروبية بلغ مجموع الناخبين في آخر انتخابات 5,6 مليون شخص تساهم الاكثرية الساحقة منهم في الاقتراع. اما في جماهيرية القذافي، فقد كان هناك مقترع واحد اسمه معمر القذافي. هذا ما اكده كثر من الذين تعاونوا مع القذافي وعرفوا نظامه من الداخل مثل عبدالسلام نصر، النائب السابق لمحافظ طبرق. فالزعيم الليبي السابق كان يسمي كل اعضاء مؤتمر الشعب العام (البرلمان)، وكذلك اللجنة الشعبية العامة (الحكومة) وكان يرسم القرارات الصادرة عن المؤتمرات فيبت فيها سلفاً. كان يترك للمجالس المحلية في القرى الصغيرة بعض الحرية في اتخاذ القرارات لأنه لم يكن لديه متسع من الوقت لمتابعة امورها وأحوالها. اما ما عدا ذلك، فإن سلطة القذافي كانت سلطة مطلقة. لقد كان القذافي يحب ان يظهر بمظهر الثائر، المتمرد والمحرض، ولكن نهمه الحقيقي كان موجهاً الى ان يكون «شارلمان» عربياً، اي «ملك الملوك، وعميد الحكام العرب، وإمام المسلمين وزعيمهم»، كما كان يدعو نفسه. ولسوف تلازم ذكرى القذافي هذه المفارقة، انه بينما كان يمثل نقضاً حياً للوضع العربي الراهن، فإنه كان، في الحقيقة حارساً بائساً لهذا الوضع، وصورة مهزوزة من صوره، ودعامة هشة من دعاماته. كان القذافي يتصور انه شيء خاص واستثنائي، ولكنه كان في الحقيقة نموذجاً عادياً ورثّاً من النماذج الحاكمة. ولم تكن تميز سلوكه السياسي اية صفة او موقف خاص. كان يمارس الحكم المطلق وهي صفة شائعة ومن المأمول ان ترحل عن المنطقة بعد ان تحولت الى عبء ثقيل حتى على الذين اتبعوها فأرهقتهم بدلاً من أن تعزز مكانتهم، وتركة مكلفة يسعى العاقلون الى التخلص منها. * كاتب لبناني