فضاءان اثنان يتوزّعان السرد في رواية «سهدوثا» للكاتبة العراقية الآشورية ليلى قصراني (الغاوون). الأوّل واقعي، دنيوي، يشغل خمسة أسداس النص. والثاني متخيَّل، غرائبي، أُخروي، يشغل السدس المتبقي. وعلى هذا التفاوت في المساحة بين الفضاءين الروائيين، وعلى اختلاف الشخصيات التي تدور في كل منهما، ثمة تقاطع بينهما يتمثّل في انجذاب الناس في كلا الفضاءين الى نوازعهم الجسدية وشهواتهم الدنيوية، وفي ارتكاب الأخطاء حتى وإن كانوا يتدثرون بثياب الكهنة والرهبان. وكأن الكاتبة أرادت القول إن طبع الأجساد البشرية أقوى من التطبّع بالروحانيات الأخروية. وعلى الرغم من أن الفضاء الأخروي لا يتعدّى سدس الرواية، فإن قصراني أطلقت اسم هذا الفضاء «سهدوثا» على روايتها. وهنا، قد يبدو العنوان مضلّلاً ولا يشكّل المفتاح المناسب للنص، ف «سهدوثا» اسم لجبل مقدّس، مفارق للعالم الأرضي الواقعي. لعلّّه مكان روحي، أُخروي، متخيَّل، يعيش فيه كهنة ورهبان ومهتمّون بعالم الروح، ويمارسون اختباراتهم الروحية وغير الروحية، وقد يرتكبون المعاصي ويلبّون نداء الأجساد التي ما تفتأ تشدّ بهم الى عالمها، بينما الأسداس الخمسة الأخرى من الرواية تتناول عالم الناس العاديين، وتعكس بيئة شعبية في معتقداتها وطقوسها وأنماط عيشها، وتتوزّع أماكن هذا الفضاء بين العراق والولايات المتحدة، أي أنه فضاء أرضي، واقعي مغرق في واقعيته. في «سهدوثا» تتناول ليلى قصراني حياة أسرة آشورية عراقية، عبر ثلاثة أجيال، تصطنع راوية تسند اليها مهمة الروي، هي احدى أفراد الأسرة من الجيل الثالث، فتقوم بسرد ذكريات ووقائع من حياة الأسرة وكل فرد فيها بنسب متفاوتة، وهي تفعل ذلك من موقع الشاهد المراقب في القسم الأول من الرواية، تروي الأحداث وحركة الشخصيات المختلفة وعلاقاتها في ما بينها، ومن موقع المشارك في الأحداث، المنخرط فيها في القسم الثاني، فتروي جوانب من شخصيتها وعلاقاتها بسائر أفراد الأسرة. وفي الموقعين، نحن إزاء بيئة ريفية، شعبية، بدائية، يتحكّم العقل الغيبي بنمط العيش فيها، وتطبع المعتقدات الشعبية حركات شخصياتها وتصرفاتهم. هي بيئة تسمّي السنوات بالأحداث التي حصلت فيها، تعالج الديدان بشرب البترول والسعال بتدليك القدمين، تطرد الجراد بالصلاة، تحذّر من العمل يوم الأحد والاستحمام يوم الثلثاء، وتحكي الأحلام للمياه الجارية... تتناول الرواية جوانب معيّنة من حياة/ حكاية كل شخصية من دون مراعاة التسلسل الزمني، فتتناثر هذه الجوانب في الصفحات المختلفة. وفي عملية تجميع ملامح كل شخصية ومواصفاتها، يمكن رسم «البورتريهات» التالية: - في الجيل الأول، يبرز الجد شخصية متحرّرة نسبيّاً من الأفكار المهيمنة في زمانه، يكره القساوسة ولا يزور الكنيسة، ينبّه الى خطر الانكليز ويشكّ بالهدف من مجيئهم الى القرية، وتأتي الأيام لتثبت صحة شكّه. وتبرز الجدّة محوراً للسرد في القسم الأول من الرواية، هي شغوفة بالحكايات، رافضة المدينة ونمط العيش فيها، تتلصّص على حفيدتها الراوية وأختها، تُبدي وعياً بالهوية الإثنية فتدعو أحفادها الى الاهتمام باللغة الآشورية وتصرّ على ممارسة شعائر دينية موروثة. - في الجيل الثاني، يطالعنا الأب بشخصيته المسالمة، فهو يعمل مساعد مضمّد، ويناديه الناس ب «دكتور» احتراماً له، لا يتورّع عن ممارسة الأعمال المنزلية فيسقي الحديقة وينظّف قفص الدجاج ويعتني بالدجاجات، ولا يطالب بحصّته من ميراث أبيه الذي استأثر به أخوه الطمّاع موشي. وتطالعنا الأم بشخصيتها القوية، فهي» الرجل» الوحيد الذي يخشاه أولاد الجيران، وهي الوديعة الطيّبة التي تقدّم التنازلات ولا تشجّع أولادها على التخاصم. وثمة العم الطمّاع موشي الذي يصطنع كل الوسائل ليستأثر بأرض أبيه ويحرم إخوته منها. - في الجيل الثالث الذي تنتمي اليه الراوية، نحن إزاء مجموعة من الإخوة والأخوات، لكل منهم/ منهن حكايته الخاصة وعطبه الجسدي أو النفسي، فإبراهيم المسافر الى اميركا هرباً من جور النظام السابق والحرب يعاني حنيناً مرَضيّاً الى العراق، وعدنان يعاني من العرج، وسامي يعيش تجربة روحية وصراعاً بين عالمين مختلفين، وفاروق مصاب بالصرع، ويعقوب مشاغب منذ الصغر لا يتورّع عن السرقة ولا يكفّ عن مطاردة النساء ومواقعة اللذة، حتى اذا ما سافر تهريباً الى أميركا وأمعن في علاقاته الغرامية، ينتهي به المطاف في مرآب مختنقاً على صدر احداهن، وتمارا تعاني مشكلات زوجية تبلغ الذروة حين تكتشف أن مولودها الوحيد مصاب بالعمى بعد فوات الأوان، والراوية تعاني مشكلة نفسية ناجمة عن كبر أذنيها، وقصر قامتها، ونحافة جسمها، وصغر وجهها. أسرة متناثرة وهكذا، نكون إزاء وقائع متناثرة من حياة أسرة آشورية عراقية تعرّض أفرادها مباشرةً أو مداورةً لجور النظام السابق من جهة، وحرب عبثية من جهة ثانية، ما انعكس خللاً وأعطاباً على الأجساد والنفسيات والمصائر. على أنه لا يمكن الكلام على حكاية رئيسية واحدة تندرج فيها الوقائع، ولا على حكايات فرعية مكتملة، فخيوط السرد المتعلقة بالشخصيات المختلفة متفاوتة الطول والقصر، ولعل أطولها ما يتعلّق بيعقوب وتمارا وسامي. من هنا، فإن القسم الأخير من الرواية يتوزّع السرد فيه على وحدات سردية متعاقبة بالتناوب بين يعقوب في أ ميركا وتمارا وسامي في العراق حتى يصل الخيط المتعلق بكل من هذه الشخصيات الثلاث الى نهاية معيّنة ينقطع عندها. اذا كان السرد في القسم الأول من الرواية يتّخذ مساراً أفقياً، تراكمياً، تجميعياً، تتناثر فيه الوقائع والأحداث وتُستدعى بشكل مجاني، ولا تندرج في حكاية يمكن متابعتها في خط بياني معيّن، فان المسار في القسم الثاني منها يتّخذ منحى تصاعدياً تدريجياً مع تلمّس خيطي السرد المتعلقين بيعقوب في أميركا وبسامي وتمارا في العراق. وهما خيطان يُفضيان الى النتيجة نفسها. إنّ سفر يعقوب الى أميركا هرباً من الواقع العراقي الضاغط ببعديه الداخلي والخارجي، وانتهاءه مختنقاً في مرآب على صدر فتاة أثيوبية، هو اشارة روائية واضحة الى فشل الرهان على الهجرة الى الخارج. وفي المقابل، يأتي سفر سامي الى «سهدوثا»، الجبل المقدّس والمكان الروحي المتخيّل، حيث يشهد هناك على الازدواجية بين المظهر والمخبر، وبين الحياة العلنية والسرية للكهّان، ثم عودته الى الأرض مصدوماً بما شهد وشاهد، اشارةً روائية أخرى الى فشل الانقطاع عن الواقع الأرضي. هي النتيجة نفسها يقود اليها تلمّس خيطي السرد المتعلّقين بيعقوب وسامي. ولعل اصرار الراوية في نهاية الرواية على قرع باب عمّتها، هو إصرار على أن باب الأمل سيفتح عاجلاً أو آجلاً. «سهدوثا» هي حكاية آشورية/ عراقية، ورسالة الى كل الذين أخنى عليهم النظام السابق والحرب أن ابقوا في أرضكم فلا تهاجروا منها، وابقوا في واقعكم فلا تنقطعوا عنه، ف «سهدوثا» الحقيقية هي على الأرض وليست في السماء.