توافدت جموع من حجاج بيت الله الحرام منذ وقت باكر أمس إلى مسجد نمرة لأداء صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصراً؛ اقتداء بسنة النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم والاستماع لخطبة عرفة، وتقدم المصلين أمير منطقة مكةالمكرمة رئيس لجنة الحج المركزية الأمير خالد الفيصل، فيما أم المصلين مفتى عام المملكة رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ بعد أن ألقى خطبة عرفة التي استهلها بحمد الله والثناء عليه على ما أفاء به من نعم ومنها الاجتماع العظيم على صعيد عرفات الطاهر. واستهل آل الشيخ خطبته بالقول: إن الإسلام رسم المنهج بأعظم بيان وأقوم أدلة وأوضح معالم، مشيراً إلى الإيمان بكتب الله التي أنزلها على أنبيائه ومنها التورات والإنجيل والقرآن والزبور إلا أن القرآن الكريم أفضلها وأجمعها مهيمناً عليها كلها، يحق الحق، ويبطل الباطل. وبين أن من خصائص الشريعة الإسلامية الالتحام بين الراعي والرعية، فالراعي يسعى لتفقد رعيته وحل مشكلاتهم، والرعية بمحبة راعيهم والدعاء له، وهكذا يريد الإسلام من المجتمع المسلم، مشيراً إلى تكاتف المجتمع المسلم بجميع مؤسساته كاملة الشرعية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقضائية والأمنية، فالجميع في حمى الدين والحفاظ على هويته ومنعه من التميع والتغريب. وشدد على أن الدين الإسلامي يختص بأنه مجتمع رباني، كون الإسلام ينظم شؤونه العامة، وحياة المجتمع مرتبطة بالدين لا بأهواء الناس، مفيداً بأن القيم والأخلاق المعنوية مقدمة على المصالح المادية. وقال: من خصائص هذا الدين أنه لا يفرق بين الجنسين فالمسلم يصوم ويصلي ويحج ويذكر الله سواء في مسكنه أو في مزرعته أو مصنعه، فالدين معه في كل شؤون الحياة، والدين يدعوه إلى ذلك كي يكون مؤمناً صالحاً، فهو قائم بما طلب منه، وهكذا المسلم، إنه مجتمع مدني وديني في آن واحد. وأشار إلى ما يمر به العالم الإسلامي اليوم من مراحل هي أخطر ما يكون في حياته حيث يواجهه ظروفاً وتحديات صعبة ويعاني من انقسام بين أبنائه ونزاع بينهم وهجوم شرس من أعدائه وتدخل سافر في شؤونه، وما يحزن المسلم هو ما يشاهده من هذه الفوضى والبلاء الذي أدى إلى انعدام الأمن واختلاف النظام والحياة اليومية ومصالح الأمة، وما حصل من تبديد الأموال ونهب للممتلكات وسفك للدماء البريئة، حتى ترك بعض المسلمين ديارهم فراراً من تلك الفتن والمصائب، ما يقض مضاجع العبد المسلم الذي يحمل شفقة على أمته ورحمة بهذه الدماء التي تسفك بغير حق، ولنا في هذه الأحداث الأليمة المحزنة وقفات لنتذكر ما حصل للخروج من هذه الأزمات والتحديات. وأشار مفتي عام المملكة إلى أن الإسلام يرفض التخريب والإرهاب والغلو والإخلال بالأمن وسفك الدماء ويغرس الانتماء، والدين الإسلامي هو دين الحق، وتحديد مطالب أبنائها في وجود مجتمع تسوده العدالة وتتكاثر ظروف الحياة الكريمة بتحقيق العدالة وحفظ الحقوق. ودعا المسلمين جميعاً أن يتقوا الله في أنفسهم ويسعوا في حل مشكلاتهم من غير تدخل من أعدائهم، وحذرهم من ميل الطائفية، قائلاً: على علماء الأمة أن يقوموا بواجبهم المأمول، حرصاً على حماية المجتمع المسلم وتقديم برامج واقعية لحل مشكلاتهم وتجنب الفتن والمصائب. وأهاب بقادة الشعوب الإسلامية أن يعملوا على إقامة العدل ويحاربوا الفساد وقال: أيها المسلمون، على قاده الشعوب الإسلامية أن يعملوا على إقامة العدل ومحاربة الفساد، وجعل أولوياته مصالح الشعوب، وعلى الرعية أن يلتفوا حول قادتهم ويسعوا إلى حل المشكلات بالطرق السلمية بعيداً عن الفوضى وسفك الدماء. وأضاف: «أن من واقع هذا البلد الطيب المبارك ما نرى من اهتمام ولاة أمره بالشعب في سبيل راحتهم وسلامتهم، وتجنيبها الفتن، دليل ذلك ما نشاهده من التحام الرعية مع رعيتهم والعلاقة الأخوية بين الراعي والرعية، وأثر ذلك من أمن واستقرار البلاد، لنعلم أن هذا هو نموذج الحق، ويجب أن تتجه إليه الدول التي تعاني من الفوضى». وتحدث المفتي عن دور وسائل الإعلام المعادي لأمة الإسلام الذي يرمي إلى إضعاف العقيدة والإيمان في قلوب الناشئة وإضعاف شخصياتهم، وقال: «لقد ترك هذا الغزو الإعلامي أثره السيئ على الشباب والناشئة فأضعف الشخصية، وطالب المسلمين بأن يقابلوا الغزو الإعلامي الشرس على الأمة الإسلامية بعمل منظم يتمثل في أحد جوانبه بإنشاء قنوات إسلامية تشرف عليها طواقم إعلامية تجمع بين التأصيل الشرعي والخبرة الإعلامية، لتكون منارة عدل وصوت حق إلى العالم أجمع». وقال مخاطباً المسلمين: «الواجب على المسلم أن يحافظ على هويته المسلمة والثبات على مبادئه ومسلماته عقيدة وشريعة وأخلاقاً مما أنزل في الكتاب والسنة عليه، فهو يتعلق بالعقيدة أو بالعبادة أو بالشريعة أو بالحلال والحرام أو شأن المرأة أو بالأخلاق والقيم، يجب أن نحافظ على هذه محافظة عظيمة وألا نتنازل عنها تحت أي ظرف من الظروف». وأضاف: «أيها المسلم، إن الإسلام بصورته الناصعة وشموليته التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي سار عليها مَن بعدهم، هذه السلفية لها في الإسلام معالم، فمن معالمها الاعتدال القويم والصراط المستقيم، ومن معالمه أن الكتاب والسنة مصدر التشريع والعلم والمعرفة، وأن السلفية تستقي من الكتاب والسنة وتأويلهما ويوافق العقل البشري، ومن معاني السلفية الصالحة لا تعصم بشراً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معالم السلفية أيضاً أن القرآن والتوحيد هما أهم الأمور، فالدعوة إليه من أكثر الواجبات لأجله خلق الله الخلق، ولأجله أنزل الكتب وأرسل الرسل، فليس عند السلفيين خزعبلات وخرافات وتعلّق بالأضرحة والشياطين والسحرة». وبين المفتي العام للمملكة أن من معاني السلفية الصالحة اعتماد الصحابة للنصوص الصحيحة، وأخذهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع سلامة معتقدهم واستقامتهم، وقال: «أيها المسلم من معاني السلفية أيضاً أن الإسلام منظومة متكاملة عقيدة وعبادة وتشريعاً وقيماً وأخلاقاً سياسية واقتصادية وأخلاقية واجتماعية، فالسلفية حركة متجددة، فمن زعم أن السلفية جامدة لا تصلح للحياة؟! وخير دليل على ذلك الملك عبدالعزيز - غفر الله له - لما أقام الدولة الإسلامية الجديدة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم امتداداً للدعوة الإسلامية الصالحة التي قام بها الإمامان محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود رحمهما الله، أقاما هذه الدولة وأرسيا قواعدها وفق الكتاب والسنة وعلى مبادئ ناصعة وعلى نهج سلفي صالح، الأمن يعمها والاستقرار والطمأنينة، مع الأخذ بمستجدات العصر وتطوراته في كل المجالات، حتى أصبحت الدولة دولة يشار لها بالبنان مع تقدمها والرقي مع التحرر والتمسّك بهذه العقيدة السلفية الصالحة. أيها المسلمون إن هناك دعوات تجري في بعض الدول الإسلامية تنادي بالحرية بالعدالة والمساواة بدعوى تحت مظلة ديموقراطية، نقول لهؤلاء إن الإسلام سبق تلك المبادئ كلها من أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن، ولو طبقناها في أرض الواقع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ولكن مفهومها بالإسلام وليس مفهومها بالنظم البشرية، فالحرية في الإسلام تحرير العبد من عبادة البشر ومن عبادة الشيطان والقبور ومن اتباع الشهوات إلى أن يكون عبداً صالحاً، فالإسلام لا يساوي بين الحق والباطل ولا الظلال والفساد والخير والشر ويحرِّم السفور والتبرج والعري والإباحية، الإسلام يدعو إلى العدالة والإسلام جاء به القرآن، «إن الله يأمر بالعدل والإحسان»، والعدل في الإسلام واسع، وتعامله مع نفسه، والعدل في الإسلام لن يتحقق إلا بتطبيق شرع الله وتطبيق حدوده في القليل والكثير». وأهاب المفتي بالمسلمين أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يحذروا مكائد أعدائهم المندسين بينهم الذين يريدون قتلهم وإشعال فتيل العداوة بينهم وبين قادتهم، وأن يحترموا الدماء والأموال والأعراض، وأن يجعلوا المصالح العليا فوق كل اعتبار، وأن يتناسوا لأجلها أي خلاف فكري ورأي لأجل مجد الإسلام، وأن يسعوا في حل مشكلاتهم بالعقل والحكمة ولا يسفكوا الدماء ويدمروا الممتلكات. وقال: «أيها القادة اتقوا الله في شعوبكم، وعالجوا قضاياهم الاجتماعية من الفقر والجهل والبطالة والحرمان، إياكم وإضعافهم، وإياكم أن ترعبوهم أو توجهوا الأسلحة التي اتخذتموها لعدوكم في وجوههم، وإياكم أن تصرخوا في وجوههم عن طريق التقتيل والحرمان والتجويع لأجل إسكات كلمتهم، فهذا أمر باطل لا يقره مسلم، أمر باطل لا يقبله الله جل وعلا». ... ويحذر الفضائيات من تشتيت الأمة