يعتبر دخول السلاجقة بقيادة السلطان طغرل بك الى بغداد بدعوة من الخليفة العباسي القائم بأمر الله في محرم 447 ه/ 1055م للتخلص من حكم البويهيين مؤشراً الى مرحلة جديدة في المشرق برزت فيها جوانب سياسية ودينية وثقافية جديدة. ومن ذلك بروز دور أوضح للمرأة في الطبقة الحاكمة والمجتمع، وهو ما يتمثل في مشاركتها في الوقف الذي يعكس ثروة المرأة ومكانتها في المجتمع. ويبدو هذا في شكل واضح في دمشق التي أصبحت عاصمة لكيان سلجوقي بعد قرون من التهميش والتدمير. وكانت دمشق بعد انهيار الدولة الاموية في 132 ه/ 750 م وانتقال عاصمة الدولة العباسية الجديدة الى بغداد تراجعت لتصبح مركزاً لولاية عباسية ثم لتصبح مجالاً للصراع بين الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية الجديدة بعد أن اتخذت الأخيرة من القاهرة عاصمة لها. وتمكن الجيش الفاطمي في 358ه/ 969 من دخول دمشق، التي عانت كثيراً من الصراع العباسي - الفاطمي حتى انه لم يبق فيها أي أثر عمراني عباسي أو فاطمي. وبرز اهتمام السلاجقة بدمشق خلال عهد السلطان ملكشاه ( 465-485 ه/ 1072-1092م) حين تمكن القائد أتسز بن أرق من دخول دمشق في 468ه/1075م وجعل الخطبة للخليفة العباسي بعد أن كانت للخليفة الفاطمي. وظهر اهتمام ملكشاه بدمشق من خلال تعيين أخيه تتش عليها فتولى الحكم فيها بلقب «تاج الدولة» خلال 471 - 488 ه/ 1078 - 1095 م، وأصبحت عاصمة لكيان يمتد من بانياس الى حماة في الشمال. والى هذه الفترة من الحكم السلجوقي يبدأ في البروز دور أوضح للمرأة من خلال الوقف. ويلاحظ هنا أن هذا الدور للمرأة يبدو في القمة (الاسرة الحاكمة السلجوقية)، وهو ما يتفق مع التقاليد التركية القديمة التي تعطي المرأة مكانة في الادارة والسياسة والحرب. إمارة الشام ويقترن هذا الدور مع تولي دقاق بن تتش الحكم في دمشق خلال 497ه/ -1104م، وهي الفترة التي برزت فيها أمّه المشهورة بلقب «صفوة الملك» وأخته زمرد خاتون التي لعبت دوراً أكبر بسبب تعدد زواجها وحكم أولادها. وكان الاتابك طغتكين تقدم وتزوج أم دقاق «صفوة الملك» وتلقّب ب «ظهير الدين» وأصبح له نفوذ كبير حتى وفاة دقاق في 497ه/1104م . وأوصى دقاق بناء على طلب والدته «صفوة الملك» للأتابك طغتكين بأن يتولى الحكم موقتاً الى أن يكبر ابنه تتش الصغير الذي لم يتعدّ عمره السنة. وبقي الامر كذلك الى أن توفي تتش الصغير فجأة في 497ه/1104م، فتولى طغتكين الحكم بلقب «الأمير» بعدما ذهب الى بغداد واحتفى به السلطان السلجوقي هناك وأصدر منشوراً قلّده «إمارة الشام». وبقي الأمير طغتكين خلال حكمه في دمشق منشغلاً بالصراع مع الفرنجة الى أن توفي في 522ه/1128م، فورثه ابنه بوري الذي تزوج بأخت الأمير الراحل دقاق زمرد خاتون وتلقّب ب «تاج الملك». وبعد وفاته في 526ه/1132م تولى الحكم ابنه اسماعيل الذي تلقب ب «شمس الملوك»، ولكن أمه زمرد خاتون لم تكن على وفاق مع سياسته ما بين الفرنجة والسلاجقة فتخلصت منه في 529ه/1135م بعد أن كاتب عماد الدين زنكي للقدوم الى دمشق. وقد تولى الحكم بعده الابن الآخر لزمرد خاتون محمود الذي تلقّب ب «شهاب الدين». وخلال فترة حكمه 529-533 ه/ 1134-1138م انشغل اسماعيل بصد عماد الدين زنكي الذي شدد حصاره على دمشق بعد أن تمكن من السيطرة على حمص ثم على بعلبك. وفي هذا الوضع سعى زنكي الى التقارب السياسي مع شهاب الدين محمود فتزوج من والدته زمرد خاتون وزوجه بابنته مقابل تخليه عن حمص. ولكن محمود تعرض للقتل على يد غلمانه في 533ه/1139م فورثه أخوه محمد بلقب «جمال الدين» الذي فوض امور الدولة الى الاتابك معين الدين انر. وحرضت زمرد خاتون زنكي على الاخذ بالثأر لابنها محمود فجاء دمشق وحاصرها شهوراً. ومع الموت المفاجئ لمحمد في 534ه/ 1139م آل الحكم الى ابنه الصغير آبق الذي لقّب ب «مجير الدين»، وذلك تحت رعاية الاتابك انر الذي تخلى للصليبيين عن بانياس مقابل مساعدتهم لفك حصار زنكي عن دمشق. وبعد انسحاب زنكي واغتياله في 541ه/ 1146 م اضطربت أحوال زوجته زمرد خاتون فلم يعد يطيب لها العيش في بلاد الشام وذهبت الى مكةالمكرمة وجاورت هناك حتى قلّ ما في يدها الى أن ماتت فقيرة في 557ه/ م بعد أن رفضت أن تسترجع أي شيء من أوقافها الكثيرة. وحاول محمود بن زنكي الذي تلقب ب «نور الدين» أن يتقرّب من الرجل القوي في دمشق (الاتابك انر) فتزوج من ابنته الخاتون عصمة الدين. ولكن بعد وفاة انر برز آبق بن محمد ليسترد حكمه ويوطد علاقته بالفرنجة، ما دفع محمود بن زنكي لحصار دمشق حتى تمكن من دخولها بمساعدة أهلها في 549 ه /1154 م. وخلال الحكم السلجوقي - الزنكي في دمشق الذي جاء بعد الحكم الفاطمي، يلاحظ اهتمام الحكام الجدد بنشر الاسلام السني من خلال المنشآت الجديدة (المدارس) التي بنوها ضمن أوقافهم، وتوفير الخدمات المختلفة للمحتاجين في المجتمع من خلال المنشآت الجديدة التي بنيت في دمشق للمرة الاولى. وفي هذا السياق يلاحظ هنا اسهام غير مسبوق للمرأة في هذا المجال، وذلك مع الاسماء التي مرّت معنا حتى الآن (أم دقاق وزمرد خاتون والخاتون عصمة الدين). وهكذا فقد شيّد الأمير دقاق أول بيمارستان في دمشق في 490ه/ 1104م، كما أنه بنى أول خانقاه بالاضافة الى مسجد دفن فيه. وأسّست في عهده أيضاً أول مدرسة سنية على المذهب الحنفي هي المدرسة الصادرية بالقرب من باب البريد. وأسست في ما بعد أول مدرسة للشافعية (المدرسة الامينية) في 514ه/ 1120م ، كما تأسست أول مدرسة للحنابلة (المدرسة الشريفية) في 536ه/ 1141م. وفي هذا السياق كان لوالدة الأمير دقاق اسهامها،اذ أضافت الى المجمع العمراني الذي بناه ولدها تربة دفنت فيها بعد وفاتها في 513ه/ 1119م. المسجد الكبير ولكن الاسهام الاكبر في هذا المجال كان لأخت الأمير دقاق صفوة الملك زمرد خاتون. وتجدر الاشارة هنا الى أن المصادر تجمع على اهتمامها بالعلم، اذ انها سمعت الحديث عن أبي الحسن علي بن قيس واستنسخت الكتب وحفظت القرآن الكريم. ولذلك ليس من المستغرب اهتمامها بنشر العلم من خلال الاوقاف التي أقامتها في ضاحية دمشق، في ما كان يعرف بصنعاء دمشق. فقد بنت هناك «المسجد الكبير» كما بنت المدرسة التي اشتهرت باسمها (المدرسة الخاتونية البرانية)، والتي وصفها الصفدي في وقته بأنها «من كبار مدارسهم وأجودها معلوماً». وذكر ابن شداد في كتابه «الاعلاق الخطيرة» أن تاريخ وقف المدرسة الخاتونية كان في 526ه، وقد أوقفتها صفوة الملك على العالم المعروف علي البلخي الذي كان أول من درّس فيها ثم جاءت بعده كوكبة من العلماء المعروفيبن. وبقيت هذه المدرسة من أشهر وأجمل مدارس دمشق حتى القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي حين زارها البدري وقال عنها «إنها من أعاجيب الدهر، يمرّ بصحنها نهر بانياس ونهر القنوات على بابها، ولها شبابيك تطل على المرجة، وبها ألواح من الرخام ما لم يسمع به». ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً إذ إن العلموي المعاصر يذكر أن نائب الشام المملوكي سيباي كان أول من خرّب هذه المدرسة وأخذ رخامها ليبني به مدرسته في باب الجابية، ثم تواصل التعدي عليها حتى لم يبق لها أثر. أما الخاتون عصمة الدين زوجة نور الدين بن زنكي فقد اشتهرت بتقواها واهتمامها بالفقراء. وورد في المصادر أنها نامت ليلة عن وردها فأصبحت غاضبة، ولذلك فقد أمر زوجها نور الدين بضرب الطبلخانات في القلعة وقت السحر لتوقظ المستغفرين بالاسحار، وهو ما بقي معمولاً به حتى نهاية الحكم المملوكي. وبنت خانقاه عرف باسمها (الخانقاه الخاتونية) في ظاهر دمشق، كما بنت في 570ه/ م مدرسة للحنفية في قلب دمشق بالقرب من البيمارستان الذي بناه زوجها (البيمارستان النوري)، ولذلك عرفت ب «المدرسة الخاتونية الجوانية» تمييزاً عن الاول. وبقيت هذه المدرسة تقوم بدورها حتى نهاية الحكم المملوكي، وذكر العلموي أن فخر الدين القدسي استولى عليها وبنى مكانها بيتاً له. * مقاطع من الورقة المقدمة الى الندوة الدولية الثانية للثقافة والحضارة السلجوقية في قونية خلال 19-23 /10/ 2011