نتيجةً لعشرات السنوات من السياسات الحكومية المنحرفة والإهمال والاستثمارات ذات التوجّهات الخاطئة، وصلت الزراعة في المنطقة العربية إلى الوضع المتقلقل الذي تتخبّط فيه الآن. فلقد افتقرت الاستراتيجيات الزراعية للحكومات العربية إلى التوجّه التكامليّ اللازم لتعزيز التطوّر وتخفيف وطأة الفقر في المناطق الريفية، حيث البنى المؤسسيّة والتنظيمية هزيلة والخدمات الإرشادية الفعّالة معدومة. ونجم عن ذلك تهميش صغار المزارعين ووقوعهم في الديون. أما المساعدات الخارجية من مؤسسات التمويل وهيئات التنمية الدوليّة، فقد أفاد منها كبار الملاّكين وموظفو الدولة والشركات المتعدّدة الجنسية. وهذا ما زاد في تهميش المزارعين الصغار والفقراء. يلاحظ أن معظم أنظمة الري في البلدان العربية غير فعّالة. وتستهلك الزراعة حاليّاً أكثر من 85 في المئة من موارد المياه العذبة الطبيعية المتوافرة، مع كفاءة استهلاك لا تتجاوز 50 في المئة ويمكن أن تتدنّى حتى 30 في المئة في العديد من الدول العربية. ومع تنامي الطلب على الماء للاستعمال المنزلي والصناعة، لا بد أن يصبح تخصيصه وتوزيعه في العقود المقبلة موضع خلافات ونزاعات. وكثيراً ما أهملت السياسات والممارسات الزراعية في البلدان العربية حماية الموارد الطبيعية والأنظمة البيئية، ممّا أدّى إلى تأكل التربة وانجرافها وتدهور الأراضي والتمَلُّح وتلوّث الماء ونضوب طبقات المياه الجوفية. وتشكّل هذه الآثار الخارجية ضغوطاً متزايدة على الموارد الزراعية المحدودة، مع تحقيق فوائد قصيرة المدى ومتوسطة المدى على حساب الاستدامة الزراعية البعيدة المدى. لذا نجد أن إنتاجية المحاصيل في العالم العربي متدنية جدّاً، خصوصاً محاصيل الحبوب والبقول الحبّيّة والعلف. من هنا تبرز الحاجة إلى منهج أكثر استدامةً لاستغلال الأراضي المحدودة وموارد المياه الشحيحة، على أن يجمع هذا المنهج بين إصلاح السياسات وأفضل الممارسات الزراعية. وينبغي البدء بتقديم الدعم والإعانات وإصلاح الأراضي، وجعل تمكين المزارعين والعمال الزراعيين محور استراتيجيات النمو الاجتماعي والاقتصادي الأوسع. ولا مهرب من معالجة مشكلة تركّز الأراضي في ملكيّات قليلة نسبيّاً، ومشكلة العائلات الزراعية التي لا تملك أرضاً. وهناك حاجة أيضاً الى السياسات الملائمة للمحافظة على استدامة موارد المياه السطحية والجوفية وضمان كفاءة استخدامها في الري، مع التشديد على إنتاجية الماء بدلاً من رفع مستوى الغلّة لكل وحدة من الأرض إلى أقصى حدّ ممكن. وإذا ما طبّقت هيكلية مناسبة للحوافز والأنظمة، فقد يكون ذلك عاملاً مفصليّاً في رفع كفاءة الري، وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة إنتاجية الماء والمحاصيل ويخفّف التأثيرات السلبية على البيئة. ويمكن أن يكون لهذه الإصلاحات في السياسات نتائج جوهرية على الأمن الغذائي والمائي العربي. ويُتوقّع تحقيق نتائج جيدة إذا ما تمّ رفع إنتاجية الحبوب من مستواها الحالي المتدني، البالغ 1700 كيلوغرام لكل هكتار في ست دول عربية (الجزائر ومصر والعراق والمغرب والسودان وسورية) إلى المستوى العالمي البالغ 3700 كيلوغرام لكل هكتار، خصوصاً إذا قُرن ذلك بتحسين كفاءة الري بنحو 70 في المئة. فحينذاك سيرتفع الإنتاج الإجمالي للحبوب في هذه الدول الست بمقدار 50 مليون طن، ما يكفي لتغطية النقص الحالي البالغ 20 مليون طن، وحتى توفير فائض يبلغ نحو 30 مليون طن سنة 2030، و12 مليون طن سنة 2050. وإذا تمكن السودان وحده من رفع إنتاجية الحبوب لديه من مستواها الحالي البالغ 567 كيلوغراماً لكل هكتار إلى المعدّل العالمي، فإنه سيزيد إنتاجه من الحبوب بنحو 28 مليون طن سنوياً، وهذه كمية تزيد عن العجز في إنتاج الحبوب سنة 2030 المقدّر بنحو 20 مليون طن. ونظراً إلى سيطرة الزراعة المطرية في العالم العربي، يتحتّم تركيز الاهتمام على التدابير التي تحسّن إنتاجية هذه المحاصيل. ويمكن تحقيق هذا الهدف إذا توافرت معطيات النوعية المناسبة واستخدمت بكميّات ملائمة. ولا غنى البتّة عن الأبحاث للتوصّل إلى أفضل المعطيات واكتشاف الأنواع المستَنبتة المقاومة للجفاف والمحاصيل التي تحتمل الملوحة. كما ينبغي تعزيز ودعم الأساليب الزراعية البيئية الجديدة التي تحمي التربة والأراضي والمياه، مثل أساليب الزراعة العضوية والزراعة الحافظة. يُلاحَظ أنّ سوق المنتجات الزراعية العضوية، على الصعيد العالمي، نمَت من 15 بليون دولار عام 1999 إلى 55 بليون دولار عام 2009. وتوفّر الزراعة العضوية وظائف لكل هكتار تزيد أكثر من 30 في المئة عما توفره أنماط الزراعة التقليدية. لذا فإن دعم الزراعة المستدامة في البلدان العربية سوف يُنتِج فرص عمل ومداخيل جديدة لسكان الأرياف، مع إيجاد سوق مخصّصة للمنتجات الزراعية العربية في الأسواق الدولية. عموماً، لا يمكن إنكار أهمية الاستثمار في التنمية الاقتصادية الريفية. فخلال العقدين الماضيين، هبطت حصة قطاع الزراعة في القوة العاملة في المنطقة العربية من 44 في المئة إلى 29 في المئة. فإذا ما أُعيد إحياء القطاع الزراعي فإن حصته في القوة العاملة ستزداد، ممّا سيحسّن مستويات المعيشة ويقلّل الهجرة من الريف إلى المدن. يشار إلى أن رفع نسبة عمال الزراعة في القوة العاملة في المنطقة العربية إلى 40 في المئة سوف يولّد ما يتجاوز 10 ملايين وظيفة جديدة في القطاع (من 27.5 مليون إلى 37.8 مليون)، استناداً إلى تقديرات عدد السكان عام 2010. ونظراً إلى أن 76 في المئة من الفقراء في المنطقة العربية يعيشون في المناطق الريفية، فإن توفير الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الريفية والزراعية سوف يفضي إلى تعزيز العدالة والاستقرار. إن اعتماد الاستراتيجيات المختلفة المذكورة يمكن أن يوفّر للبلدان العربية منافع جسيمة وملموسة. فالتحوّل إلى الممارسات الزراعية المستدامة، مثلاً، يُنتظَر أن يمكّن الدول العربية من توفير ما بين 5 و6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي نتيجةً لزيادة إنتاجية الماء ورفع مستوى الصحة العامة وحماية الموارد البيئية. وانطلاقاً من أرقام الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربية عام 2010، فإن إجمالي التوفير سيبلغ 114 بليون دولار. كما أن إعادة إحياء القطاع الزراعي عن طريق الاستثمارات المناسبة والأبحاث والتطوير ستؤدي إلى تخفيض الواردات على مدى السنوات الخمس المقبلة بنسبة 30 في المئة، في أقل تقدير، وبالتالي تدعيم الأمن الغذائي. وسينجم عن ذلك توفير المنطقة مبلغ 45 مليون دولار خلال هذه السنوات الخمس.