شدت الرواية في السعودية الانتباه إليها أخيراً لجدة تناولها، وخصوصية عوالمها وبروز أقلام ابتعدت عن السائد المطروق. ومن قبل لفتت انتباهي في غير ما مرة التحولات الطارئة في هذا المجتمع على مستوى علاقة الأفراد بذواتهم وبالمجتمع المحافظ، ولأشد ما تلفت المفارقات والازدواجيات الانتباه بشكل طافح. وقد كانت الرواية باعتبارها جنساً أدبياً أثبت قدرته على الانتعاش في حضن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والحقوقية أقدر جنس - في المرحلة الراهنة - على التعبير عن واقع حال المجتمع السعودي. خصوصاً أن الرواية تجد مناخاً صالحاً لاستنباتها أينما وجد ضغط وقمع ومصادرة. محمد المرزوق واحد من الأقلام التي آثرت الفن الروائي للتعبير عن مجتمع غارق في مثالياته، وهو إذ يطل علينا من خلال نافذة/رواية «لا تشته امرأة جارك» يحيلنا على واقع اجتماعي سعودي عبر تصوّر واقع تخييلي، يحتفظ للرواية بجمالياتها الخاصة وينأى بها عن الصيغ التقريرية. الرواية صادرة عن «منشورات الغاوون»، وعنوانها يمارس فعل الغواية من خلال «إتاحة الفرصة للقارئ لارتكاب الشر، أي لتحقيق أحلامه الخبيثة، في إطار من إبراء الذمة ينسبها للكاتب»، ويتخذ العنوان موقفاً هجومياً في إطار هذه الظرفية التي اتسمت باتهام الروايات حتى قبل قراءتها، فيهاجم منظومة تتعسف في مراقبة ومحاكمة الأماني والأحلام والنوايا، وتفترض أن العنوان والمتن مشبوهان حتى يثبت أنهما مدانان. صورة الغلاف المتضمنة لشاب متشح بالسواد يشيح بوجهه تعضد هذا المعنى، وتؤكد أن الرواية إنما هي الابن العاق من حيث شكلها الهجين، ومن حيث مضمونها الكاشف الفاضح. السرد في رواية «لا تشته امرأة جارك» يمر واصفاً مدققاً في التفاصيل الصغيرة، مركزاً في الفصول الأولى على شخصية علي بن جابر، واصفاً من خلاله جيلاً كانت البساطة والمحافظة أهم سماته البارزة. لن تقول عنه الرواية أكثر من أنه «..احتل بصمت على مدى سنوات موقعه في الصف الأول(..) يظهر غضبه حين لا يرى أمام الجماعة، يشعر أنه أضاع آلاف الحسنات، يصلي وحده وجبينه مقطب، ويستغفر الله!» (ص11) وتوجز الرواية يومياته في كونه «يتناول فطوره خبزاً وشاياً. ثم قبل الظهر إلى الحسينية، يستمع إلى خطيب يبكي الحضور يومياً على ما حدث في كربلاء. يتأوه، يبكي، تدمع عينه بغزارة، يصرخ: «واحسيناه» (ص11). يبدو الحاج علي بن جابر محافظاً أكثر حين «يستغفر الله حين يصدم أذنه صوت أم كلثوم أو عبدالوهاب» (ص12)، ومن الطبيعي أن يشمل التركيز على هذه الشخصية التركيز على علاقته بزوجته، فبعد أن أفنت عمرها في خدمته «دمعت عيناه على زوجته، ولكنه مسحها في سرعة حتى لا يلاحظها أحد» (ص15). هو الحاج علي بن جابر الشخصية التي تعتبر توطئة للرواية، تؤكد على تجذر القيم ورفض التغيير والإصرار على أن كل قديم مقدس، حتى قواعد البيت الخرسانية المنخورة يرفض التسليم بأن تغييرها أصبح أمراً حتمياً. وحتى جهاز التكييف لن يفرح به حين اشتراه ابنه: «حزن على الحجارة التي أزيلت من الجدار ووضع مكانها مكيف الهواء» (ص20)، تدريجياً سيتضح أن الحاج علي بن جابر أصبح يعيش في زمن غير زمنه. هكذا تنتقل بؤرة السرد من شخصية إلى شخصية، ومن زمن إلى زمن، ومن جيل إلى جيل: «تساءل علي بن سعيد بن علي بن جابر، في زمن ذاب فيه جسد جده المدفون في قبر لم يتبقَّ منه غير شاهد من جذع نخلة، علق عليه لوح خشبي، كتب فيه بخط طفل تعلم لتوه رسم الحروف، هذا قبر الحاج علي بن جابر، تساءل وهو ينظر إلى ابنه مشغولاً بشجار توم وجيري: «هل سيكون مصيري مثله؟» (ص31). تحتشد في الرواية جملة من القناعات والتمثلات التي تشكل ثقافة الحريم السائدة، خصوصاً حين يتوقف السرد عند «صباح بنت جاسم» زوجة «سعيد بن علي بن جابر» «تزوجت صغيرة، لم تتجاوز الخمسة عشر عاماً. أبوها وافق على زواجها من دون أن يفكر في الأمر مرتين» (ص37). يستمر السرد في ملاحقة تفاصيل استعداد العروس لزواج ستكون هي الطرف الأخير فيه في ظل عادات وتقاليد موروثة بصرامة متناهية تسهر عليها الأمهات والعواجيز: «العجوز تحرك المبخرة عند أنف صباح وهي تصلي على النبي، وتتوسل الله أن يكف أعين الحاسدات..» (ص41). تتواصل طقوس الزفة لتضع القارئ في قلب مشاهد بالغة المحلية والخصوصية، ففي ليلة الدخلة «لم تحضر أمها، لا يمكن أن تحضر الأم مع ابنتها في ليلة دخلتها، قانون لم يكتبه أحد، لكن الجميع يعلم به. ستعود صباح إلى بيت أبيها بعد خمسة أيام لزيارتهم» (ص42). تغرق الرواية في التفاصيل، لكنها تفاصيل لا تبعث على الملل ما دامت تفتح أسئلة الاختلاف بين جيل وجيل، وبين مجتمع ومجتمع، وبين حريم وحريم. تقدم الرواية تفاصيل النسوة وانشغالاتهن في أمور الحمل والولادة: «تقول لها النسوة سترزقين بولد. لأن الجنين ينام في أسفل البطن» (ص39). إن النساء الأكثر مراساً وتجربة لا يمكن مناقشة مسلَّماتهن، خصوصاً إذا اعتبرت الجنين الولد «يمنح أمه نوراً في وجهها» (ص33). و«البنت تسبب سواداً عند رقبة الأم وتذهب بنور وجهها!» (ص33). يتواصل إبراز التمييز بين الولد والبنت إمعاناً في الفضح والكشف أكثر عن مجتمع ذكوري، فسعيد زوج صباح «يصر في دعائه الله أن يكون حملها ولداً» (ص34). وطبعاً منطقه الذكوري المتحامل لن يقتنع بأن «الرحمة دائمة بينما النعمة زائلة» (ص34). أفاضت الرواية في استجلاء حيوات شخصيات من باب تثبيث الرؤية على شخصية ستستأثر بالسرد ما يفوق ثلثي الرواية. ثم إن التدرج في الإحاطة بالأجيال المتعاقبة هو ما يخرج السرد من شكله السيري المرتبط بشخصية واحدة، إلى الطابع السيري المرتبط بمدينة وبمنطقة وببلد، وذاك هو الفرق بين سيرة الشخصية وسيرة تستوعب حياة مجتمع. لقد كان التحدي قائماً منذ البدء بين شخصية تتشكل وتتغير وبين عالم جامد، متماسك، رتيب، وثابت. وعلى رغم أن التعاليم الأخلاقية الدينية والاجتماعية المحلية تسيّج الشخصية المحورية، إلا أن المرونة التي يتيحها الشكل الروائي سمحت بهامش خصب للدخول في الذات الجمعية والفردية، وأبانت عما يمور في وجدان الشخصية المحورية وفي وجدان المجتمع ككل. وهذا يدل على أن «الأدب بخلاف الخطابات الدينية والأخلاقية أو السياسية لا يصوغ نسقاً من التعاليم، ولهذا السبب يفلت من أشكال الرقابة التي تمارس عادة على الأطروحات المصوغة تصريحاً». لقد تناولت الرواية بذكاء مجموعة من القضايا بأسلوب تلميحي أكثر منه تصريحياً. فكانت الرواية فضاء ملغماً بالأسئلة والانطباعات العفوية والمواقف العاطفية والأماني والتخييلات. هكذا فإن ما تَصْدُر عنه الشخصية المحورية من أقوال وأفعال وردود أفعال ما هو إلا هواجس ومشاعر وأسئلة أكثر منه أحكاماً وإجابات وحقائق قابلة للدحض أو الإثبات. يعمد أسلوب الرواية إلى الاحتفاء بتأمل الأحداث الصغيرة والمألوفة، فهي على صغرها وعرَضِيتها تشكل وعي الشخصية المحورية، فكثيراً ما نجد عبارات تتصدرها كلمات من قبيل (اعتقد.../تيقن.../اقتنع..) ويتعلق الأمر في أحيان كثيرة بقناعات مغلوطة: «..تيقن أنها من السحر حين سمع شيخاً يقول إن علم الجبر من العلوم الغربية» (ص54). إن مهارة السرد الحقيقية تكمن في قوة تحويل اليومي العادي المألوف إلى ما هو مثير ومدهش: «قال لصديقه سالم، وبهمس: (احتلمت البارحة).» (ص56) ولا يكفي أن تكون المواقف جريئة بل لا بد أن تكون دافعاً للاستغراق في التأمل، ودافعاً لاكتشاف المسكوت عنه، ودافعاً لصياغة أسئلة أخرى عفوية وتلقائية: «تساءل عن العلاقة بين قبول الدعاء وشعر عانته» (ص58). هذا النقاش سيحصر في إطار قناعة أولية تصاغ هكذا: «اقتنع أن حالته تجسيد للكبت الجنسي. هكذا سمع في التلفزيون» (ص60). وغير خفية هنا الإدانة الضمنية لمجتمع يصنع التلفزيون ثقافته الجنسية. ليس من السهل أن تكون رواية ما كوة تنفتح على شساعة ما يمور ويفور في مجتمع خليجي، وإذ تقتنص هذه الرواية جزءاً حياً دافقاً متدفقاً من الحياة في المجتمع السعودي، فهي تقدم مادة دسمة للدراسات «السوسيوأدبية»، وتنفرد بكونها تؤسس إلى الانتقال لكتابة الذات والداخل واللامرئي، فما تقدمه في مجال الأدب «أليجوريا (أمثولة) مثلاً، يظل مائزاً عما تقدمه، وثيقة مباشرة».