أردت أن أكتب عن ستيف جوبس، مؤسس شركة أبل للكومبيوتر، بعد وفاته في الخامس من هذا الشهر، غير أن قرب سقوط معمر القذافي ثم سقوطه وقتله، وتطورات الثورات العربية الأخرى كانت أهم لكاتب في صحيفة عربية، وعندما قررت أن أعود إليه في نهاية الأسبوع الماضي كان هناك خبر أهم كثيراً هو وفاة ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، رحمه الله. مع ذلك «رب ضارة نافعة» فالتأخير وفر لي مادة إضافية كثيرة عن ذلك العبقري الذي بدأ اهتمامي به بعد أن وجدت انه وُلِدَ لأب سوري هو عبدالفتاح جندلي وأم أميركية، وتبنته أسرة أميركية أخذ عنها لقب العائلة فعرفه العالم باسم ستيف جوبس. بين حين وآخر يتوافر لي سبب يرد لي بعض ثقتي بالأمة، فالعربي يستطيع الإبداع، لو أُعطيَ نصف فرصة، ويستطيع المنافسة على أعلى مستوى عالمي لو تكافأت الفرص فلا يضيع العمر في الفرار من الأمن أو الركض وراء الرغيف. ستيف جوبس هو دليلي على أن العرب لم يفقدوا تلك القدرات التي أرهصت قبل ألف سنة لعصر النهضة الذي قام به واستفاد منه غيرنا. أكتفي اليوم من المادة عن ستيف جوبس بعرض بعضها باختصار فهي شهادة كاملة في الرجل وعبقريته، لم أرَ مثلها، أو في حجمها، حتى عندما مات رؤساء دول كبرى. مجلة «نيوزويك» خصّت ستيف جوبس بغلافها بعد وفاته وبعشرين صفحة في داخل العدد، منها صفحتان لمجلات من حول العالم احتلت صوره أغلفتها مع إشارات إلى إنجازاته. وكان عنوان التحقيق الكبير «شكراً على المستقبل» بمعنى أنه أعطى العالم مستقبله. وبالمعنى نفسه قالت مجلة «الايكونومست» في مقال افتتاحي عنوانه «الساحر» إن الثورة التكنولوجية التي أطلقها ستيف جوبس لا تزال في بدايتها. وهي أتبعت ذلك بتحقيق عنه عنوانه «عبقري يغادرنا» أبرزَ الإنجازات المذهلة للرجل. «الأوبزرفر» اختارت أن تنشر خطاباً «ملهماً» ألقاه ستيف جوبس في حفلة تخرج طلاب جامعة ستانفورد سنة 2005، وهو لم يكمل سوى فصل جامعي واحد ترك بعده ليؤسس شركة أبل مع رفيقين له ويفتح طريق المستقبل للعالم. وكانت الجريدة نفسها قبل وفاته نشرت تحقيقاً عنه عنوانه «ماذا جعل رئيس أبل عملاقاً بين عِظام عالم الاتصالات»؟ «الغارديان» و«الاندبندنت» تحدثتا عن تيم كوك الذي خلف ستيف جوبس في أبل بعد أن اشتد عليه مرض السرطان، وكانت فكرة التحقيقين واحدة هي صعوبة ملء الفراغ الذي خلفه رحيل رئيس الشركة العبقري. أما «التايمز» فخصصت صفحة لكاتب يحكي عن مقابلة له مع ستيف جوبس، وكأن هذا في أهمية بابا روما. وكانت الجريدة نشرت مقالات كثيرة عن حياة الرجل وموته ومدى غرابة أطواره، ثم قدرته على اجتراح معجزات تكنولوجية. وأستطيع أن أقول واثقاً إن كلاً من صحف لندن نشر عنه تحقيقات كثيرة، تجاوزت عشرة إلى عشرين أحياناً، ومعها تعليقات وآراء ضمّت كلمات من نوع عبقري وملهم ومثير ومبدع. وكنت عند استقالته نقلت عن الصحف الغربية مقارنة له مع عباقرة تاريخيين من نوع توماس اديسون، وقد عادت «واشنطن بوست» إلى هذه المقارنة بعد وفاته. وكانت هناك غالبية في الميديا والقراء قدمته على أديسون وجون روكفلر وغيرهما من كبار المخترعين ورجال المال والأعمال. يبدو أن ستيف جوبس كان غريباً في حياته ومماته، فهناك الآن كتاب جديد يحكي في 650 صفحة سيرة حياته من تأليف والتر آيزكسون الذي يقول إنه عندما اشتد المرض برئيس أبل اختار أن يلجأ إلى ما يسمى «الطب البديل»، فقد أجّل الجراحة تسعة أشهر مفضلاً طعاماً من الخضار ووصفات شعبية. وقرأت معلومات منقولة عن أطباء تصر على أن السرطان الذي أصيب به كان يمكن علاجه عن طريق الطب التقليدي والجراحة، إلا أنه رفض ذلك حتى استفحل المرض. وفي غرابة ذلك أن يضم الكتاب قصة عن حرب أبل مع غوغل وتهديد ستيف جوبس بشن «حرب حرارية نووية» على غوغل. أقرأ عن هذا العبقري السوري الأب، وأفكر في حدود قدرة أي سوري أو عربي يُمنح فرصة، ثم أفكر في أوضاع سورية اليوم، ولا أملك سوى أن أحزن فألجأ إلى سراب الأمل بمستقبل أفضل. [email protected]