غرقت سفينة ال «تايتانك» الشهيرة إثر اصطدامها بجبل جليد عام 1912. جلبت هذه الكارثة الى الوعي المعاصر صورة مؤلمة عن التهديد الذي تمثّله هذه الجبال المتحركة للملاحة البحرية، إذ لم يبرز من بين مخاطر البحر كافة في زمن السلم، ظاهرة مخيفة وقاسية، وربما مميتة، بالنسبة إلى الملاح الذي لا يأخذ حذره، تضاهي خطر الجبل الجليدي، فعلى رغم الكفاءة وسَعة الحيلة وقرابة قرن من التقدم التقني، قاومت هذه العجائب الطبيعية جهود الإنسان الهادفة إلى السيطرة عليها أو تدميرها. إذ تدفع التيّارات البحرية في المحيط الأطلسي هذه الجبال الجليدية الرائعة والقديمة، التي يُعتقد أنها انفصلت عن الكتل الجليدية الكبرى قرب جزيرة «غرينلاند»، لتضعها في مسار خطوط الملاحة البحرية في شمالي الأطلسي، علما بأن طول هذه الجبال يساوي طول مجمع تجاري «مول» ضخم. وتولت «دورية الجليد الدولية» التابعة لقوة حرس السواحل في الولاياتالمتحدة، مسؤولية مراقبة هذه الخطوط منذ عام 1913. وتحصل هذه الدورية على معلومات حول جبال الجليد في الأطلسي من مصادر عدّة. وتعمد إلى تحويل هذه البيانات إلى نماذج معلوماتية على الكومبيوتر، كي تتوقّع طرق تحركها مستقبلاً. ثم تعمد الى توزيع تلك المعلومات على مراقبي الملاحة الدولية. وحظيت «دورية الجليد الدولية» بسجل أمن تُحسد عليه، إذ لم تُسجّل خسائر في الأرواح والممتلكات، كما لم تصطدم قواربها أبداً بجبل جليد. وتعود جذور الجبال الجليدية الأساسية التي تتحرك في المحيط الأطلسي، إلى 100 كتلة جليدية عند جزيرة «غرينلاند». وينفصل بين 10 آلاف و15 ألف جبل جليدي سنوياً عن تلك الكتل. ثم تتنقّل هذه الجبال شمالاً على طول ساحل غرينلاند، وعلى امتداد السواحل الجنوبية من الولاياتالمتحدة. ويتباطأ تقدّم الجبال الجليدية عند اقترابها من قعر البحر، علماً بأن كتلتها تمتد الى مسافة تتراوح بين 600 و900 قدم تحت سطح البحر. ويتغير اتجاهها أحياناً فتسير إلى القطب الشمالي، أو الى الأطراف القصيّة من السواحل الشرقية للولايات المتحدة. وتصل سرعة جبل الجليد إلى قرابة 1800 ميل بحري، ويستغرق من 11 شهراً إلى ثلاث سنوات ليصل إلى خطوط الملاحة البحرية في الأطلسي، ويحمل تيّاراً بحرياً يندفع من سواحل كنداالشرقية، الجبال الجليدية جنوباً صوب خطوط الملاحة البحرية بين أوروبا ومرافئ أميركا وكندا. وفي هذه المنطقة، يصطدم هذا التيّار البارد بتيّار الخليج الدافئ المتّجه نحو أوروبا. وقد يزيد الاختلاف في الحرارة بين التيّارين على 20 درجة مئوية. ويتسبب مزيج الهواء في أعلى كتلتي المياه المختلفتين بضباب كثيف، ما يزيد من خطر الجبال الجليدية. ولا تجتمع هذه العوامل في أي مكان آخر، ما يجعل تلك المنطقة إحدى أخطر الأمكنة البحرية. وتحبط قوى المناخ التي تؤثّر على الجبال الجليدية، الجهودَ التي تسعى للحدّ من خطورتها. وتبيّن التجربة أن اقتفاء أثر هذه الجبال الجليدية ونشر المعلومات عنها، هما الوسيلة الأكثر فعالية لتعزيز الإبحار الآمن. ويبدأ حرس السواحل في الولاياتالمتحدة الأميركية رسمياً مراقبة الجبال الجليدية عندما يهدد وجودها الطرق البحرية الأساسية بين أوروبا وشمال أميركا. وبحسب ما تنصّ عليه «الاتفاقية الدولية لسلامة الأرواح في البحار» («سولاس»)، يمتد موسم جبال الجليد من 15 شباط (فبراير) إلى 1 تموز (يوليو) سنوياً. وأحياناً، تبدأ «دورية الجليد الدولية» عملياتها عندما تفرض أحوال الجبال الجليدية ذلك، وتواصل جهودها حتى يختفي الخطر. وباستثناء السنوات غير الاعتيادية التي يكون فيها موسم الجليد قوياً، تمثل الفترة بين شهر آب (أغسطس) وكانون الثاني (يناير)، فترة آمنة للملاحة البحرية.