تنامى التطرف الديني بفعل الحضور الملتبس للدولة في حياة المصريين لأكثر من ثلث القرن حيث الحضور الأمني الكثيف بغرض الضبط والقسر، والحضور السياسي الخفيف الذي لا يفي بمهمة القيادة والتوجيه. فالمؤكد أنه عندما تنزوي الدولة كإطار يستوعب حياة الناس ويلهمهم حس اتجاه نحو المستقبل، تبدأ بدائلها في الظهور، وهنا تندفع النعرات الجهوية والانتماءات الدينية وربما القبلية إلى صدارة الساحة السياسية باعتبارها الوريث الطبيعي للوحدة الكبرى أو اللحمة الوطنية. ولعل الأمر المشهود في العقدين الماضيين هو تحول الكنيسة، والمسجد في مصر من مجرد دور للعبادة تشهد ممارسة لطقس روحي، الى مجمعات متكاملة تقدم خدمات دنيوية متعددة لفقراء الجانبين، فصارت المساجد والكنائس بديلاً عملياً للمستشفيات والعيادات الصحية، ولتجمعات الدروس الخصوصية. كما أصبحت حاضنة لإقامة المآتم، وأخذ العزاء، أو للاحتفال بعقد القران وطقوس الزواج المحدودة، كما صارت الكنيسة والمسجد يضطلعان بدور اجتماعي واضح في حياة أعضائهما من خلال تنظيم رحلات ترفيهية، أو معسكرات رياضية، أو حلقات دعوة وتوعية دينية في مناطق بعيدة عن مكان الإقامة. وما من شك في أن هذا الدور المتعاظم للمسجد والكنيسة، مع ضمور دور الأحزاب السياسية، وضعف بنيوي لدور المنظمات الأهلية، وهيئات المجتمع المدني، إنما يزيد من سيطرتهما على مقدرات الإنسان العادي، ويمنحهما دوراً أكبر في تشكيله حيث تمثل الجرعة الدينية أو الطائفية مقوماً أكثر كثافة في تركيب الهوية الفردية على حساب القيم الوطنية العامة التي طالما مثلت إطاراً جامعاً للانتماء، والهوية، وبوتقة صهر مشترك لعناصر المجتمع المصري في أغلب مراحل تاريخه التي كان يستشعر في بعضها وجود تحديات خارجية كبرى تستفز همته لمواجهتها، وفي بعضها الآخر قدرة الدولة على تبنى أهداف كبرى سواء في تحديثه وزيادة رفاهيته ومن ثم قدرته على الإمساك بمصيره، أو في تأكيد دور مصر الإقليمي ومن ثم قدرتها على التأثير في محيطها وعالمها، ما كان يصوغ، في المجمل، مشروعاً وطنياً يستحق الحياة من أجله والاندماج فيه، ويمنع التشرذم والتفتت الناجمين عن غياب حس الاتجاه الى المستقبل، والذي يعانى منه المصريون الآن ويثير لديهم الغضب والتعصب. وقبل أن تتمكن الثورة المصرية من وضع هذا المشروع الوطني أو الشروع في تنفيذه، بل وقبل أن تفرز نظاماً جديداً من الأصل، بدت في مواجهة عاجلة مع تراكمات العقود الماضية التي أخذت تظهر وكأنها طفح طائفي ظهر كثيفاً وسريعاً على وجه مصر الجديدة، بدافع من رغبة أتباع الدينين: المسلم والمسيحي في فرض منطقهم على النظام الجديد، ومن ثم فقد سعى كل طرف منهما إلى توجيه رسائل معينة ومكثفة حول حدود قدرته على الحشد والتأثير، أملاً في حجز موقع أكثر مركزية على خريطة المستقبل. في هذا السياق أتى حادث الاعتداء والهدم الجزئي لكنيسة صول بأطفيح من قبل مسلمين، وما تبعه من عنف طائفي أودى بحياة ما يزيد على العشرة أشخاص، ليمثل عملاً عبثياً، ربما كان غير مسبوق في التاريخ المصري الحديث على الأقل. غير أن ثورة غضب الأقباط كانت في المقابل أكبر وأطول مما كان يتحمله الوضع آنذاك، على رغم وعود المجلس العسكري الحاكم بإعادة إصلاح ما تم هدمه. فهنا كان سلوك كل فريق يتعدى الحدث المباشر ولا يتوقف عنده، بل يسعى إلى توجيه إنذارات وإطلاق إشارات حول طاقاته وقدراته. وفي حادثة الاعتداء على كنيستي مار مينا والعذراء بإمبابة بدا الأمر أكثر عبثية وهمجية وغموضاً. لقد تبادل الطرفان القتل، وراح نحو اثني عشرة ضحية بالتساوي بين الجانبين، ناهيك عن المصابين والجرحى، إثر إشاعة عن احتجاز الكنيسة لفتاة أسلمت. وبغض النظر عما إذا كانت الإشاعة صحيحة أم لا، فإن القضية كلها كانت شخصية تمس حرية الضمير، ويكفي لمواجهتها بلاغ إلى النيابة العامة للتحقيق في الأمر، والتماس إرادة الفتاة وضمان عدم قهرها أو اختطافها. وأخيراً تأتي أحداث ماسبيرو التي بدأت في مركز أدفو بأسوان، واستمر الجدل حولها لأكثر من عشرة أيام، قبل أن تبلغ ذروتها الدرامية بقلب القاهرة، من دون رد فعل حكومي حاسم أو سريع في قضية يفترض أنها تنضوي على قدر كبير من الحساسية. لقد وقعت الكارثة وفقدت مصر معها أكثر من خمسة وعشرين من أبنائها، فضلاً عن مئات المصابين، وهنا فقط تحركت عجلة السياسة الحكومية، نحو عدة قرارات مهمة يأتي على رأسها الشروع في صياغة قانون دور العبادة الموحد، وإضافة مادة في قانون العقوبات المصري تكرس مفهوم المواطنة وتجرم التمييز بين المصريين على أساس عرقى أو ديني، فضلاً عن إنشاء لجنة تحقيق وتقصي حقائق في الأحداث تحت رئاسة وزير العدل. ولعله صار أمراً ملحاً كذلك إصدار قانون بمرسوم عسكري يضع حق الاعتقاد في موضعه السامي حتى لا يناله غبن أو عبث، ينتصر لحرية الضمير، ويمنع الكنيسة من لعب دور الشرطة / الدولة في احتجاز أي من المؤمنين بها أو الخارجين عليها، فمن حقها أن تؤثمهم أو تحرمهم ولكن ليس من حقها أن تعتقلهم، فسلطتها، بحسب قولها، تبقى على الإيمان، فيما الجسد يخضع لسلطة الدولة والقانون الذي يجب احترامه. وهو أمر ينصرف كذلك على المسلم والمسلمة، فليس من حق الأزهر، مثلاً، أن يعتقل مسلماً، أو مسلمة تريد أن تتنصر، فتلك سلوكيات تنتمي للعصور الوسطى ولا يجب أن تعيش في زماننا هذا. فللمواطن أن يختار الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو حتى الإلحاد، ولا خوف مطلقاً على الإسلام أو المسيحية من فقد رجل أو امرأة ضعيف الإيمان، وليس في صالحهما أن يضما بين معتنقيهما منافقاً ليكون بين مسلمي مصر، مثلاً، كما كان ابن سلول بين مسلمي المدينة. وينطبق الأمر نفسه على الأقباط وكل المسيحيين فلا خير في مؤمن منافق، ولا في إيمان مهتز، ولا معنى لدين أو إيمان يقوم على الجبر أو القهر. لن تتمكن الثورة المصرية من النهوض بمصر، بل لن تستحق اسمها، إذا ترددت في الانتصار لحرية الضمير الإنسانية، فليس ثمة روح وطنية حقة من دون ضمير إنساني حر، وليس ثمة نهضة حق من دون إيمان إيجابي فعال يتجاوز كل صنوف القسر، وأشكال القهر، ليندرج في فلك الحرية والإرادة والقدرة على الاختيار. * كاتب مصري