للمرة الأولى منذ 34 سنة سيدخل اللبنانيون جدياً في مرحلة اختبار حكم أنفسهم بأنفسهم. فطوال ثلاثة عقود ونصف العقد تقريباً عاشوا مسلوبي القرار: بين 1975 و1990 تحكمت بهم الميليشيات الداخلية والحروب الإسرائيلية والتدخلات العربية والأجنبية، وبين 1990 و2005 أمسكت الإدارة السورية بشؤونهم، ومنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وحتى انتخابات 2009 النيابية سنوات مخاض صعبة. كان ثمة إجماع قبل العودة الى الناخب اللبناني في نهاية الأسبوع الأول من الشهر الجاري، أن هذه ستكون محطة حاسمة في تحديد خيارات اللبنانيين في شأن مستقبل بلدهم. فمع أن انتخابات 2005 التي نظمت على عجل في أعقاب اغتيال الحريري، وبدء مسلسل الجرائم، وبعد الانسحاب السوري في نيسان (ابريل) من ذلك العام، كانت الى حد ما معبرة عن توجهات الناخبين، إلا أن عطباً تأسيسياً لازمها، فالتحالف الرباعي الذي قام يومها وانهار في وقت لاحق، وضع شرعية الأكثرية النيابية على محك الشك، لتلحقها بعد حين الشرعية الحكومية. وإذا كانت ظروف عدة منعت إجراء انتخابات مبكرة وحَمت استمرارية الحكومة على رغم فقدانها ممثلي الحزبين الشيعيين، فإن الأنظار اتجهت في وقت مبكر الى انتخابات نيابية تمتحن الخيارات الفعلية للبنانيين وتبت في موضوعي الأكثرية والأقلية النيابيتين. ثمة فارق أساسي بين انتخابات 2005 وانتخابات 2009، يكمن في أمرين: الأول المسارعة في 2005 الى عقد تحالف انتخابي رباعي فرضته ضرورات حفظ السلم الأهلي المذهبي والسياسي، والثاني إطاحة ذلك التحالف بكل الرموز خارجه نتيجة موقف عاطفي، لا سياسي، فأبعد عصام فارس وأسقط جان عبيد وسليمان فرنجية وغيرهم بسبب «الشبهة السورية»، واُبقي، نتيجة موقف سياسي لا عاطفي على «رموز سورية» تتجسد ليس فقط في أشخاص وإنما في تيارات سياسية - طائفية بكاملها احتشدت في الثامن من آذار (مارس) 2005 لتقول «شكراً لسورية». واحتاجت بلورة نتائج زلزال 2005 الى المزيد من التأزم والدماء، وما كانت تلك المرحلة لتنتهي إلا بعد انفجار كبير في السابع من أيار (مايو)، فجاء اتفاق الدوحة ليرسي مدخلاً للحل يختصر عنوانه باختيار العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. وجاء اختيار سليمان رئيساً، نتيجة عجزين: عجز الأكثرية النيابية عن ممارسة السياسة (نتيجة الاغتيالات والتهويل والضغوط) وعجز المعارضة عن تحقيق أهدافها في الشارع، بالاعتصام والعصيان المدني واللجوء الى السلاح، كما جاء اختياره حصيلة حاجتين: حاجة البلاد الى الخروج من المأزق، وحاجة العناصر الإقليمية والدولية المتورطة في الشأن اللبناني الى هدنة تنصرف بعدها الى حل مشكلاتها: المصالحات العربية والمفاوضات الإسرائيلية - السورية والحوارات الأميركية - الإيرانية - السورية الخ... لذلك يمكن اعتبار تسلّم العماد سليمان مهماته كرئيس للجمهورية اللبنانية محطة في انتقال لبنان المفترض من حالة الحرب والوصاية الى حالة الاستقلال وصوغ القرارات الداخلية المستقلة. فالرجل الآتي من تجربة قيادة جيش حمى التحركات الشعبية المتناقضة على مدى ثلاثة أعوام كان اكتسب الى حد كبير ثقة جميع الأطراف، كما اكتسب ثقة الخارج الذي سماه رئيساً قبل أن ينتخبه مجلس النواب العائد الى الحياة من تعطيل قسري، ومع هذا الرئيس تبدأ مرحلة جديدة، صعبة، قوامها قيادة «مدرسة المشاغبين» الى الانتظام، عبر استعادة دروس يومية في الحوار والتفاهم توصلاً الى اتفاقات تبدو أحياناً بديهية، لكنها كانت مستحيلة في أعقاب سنوات الانقسام والاتكال على الحكم - الحاكم السوري. مع ذلك لم تكن الأمور مُيسرة، فعلى رغم تمكن العهد الرئاسي الجديد في سنته الأولى من إجراء بعض التعيينات القيادية (في الجيش ومجالس الرقابة خصوصاً) إلا أن عجلة الحكم بقيت مثقوبة، وتحول الثلث المعطل عطلاً مثلثاً يعيق قيام دولة المؤسسات، ولم ييأس رئيس الجمهورية، ففي الأفق محطة أساسية أرادها شخصياً، وأرادها الجميع ممن يتصارعون، حاسمة، وهي محطة الانتخابات النيابية. الجميع راهن على نتائج الانتخابات. المعارضة كانت واثقة من الفوز بالأكثرية، وقوى «14 آذار» كانت تسعى الى هذا الفوز. وفي الخارج كانت تبنى سياسات انطلاقاً من النتائج. بعض الغربيين لم يخفوا حزنهم لفشل المعارضة، وبعض الإقليميين أصيبوا بصدمة، والأمر نفسه حصل مع فوز «14 آذار» بالأكثرية، البعض في الإقليم صُدم والبعض الآخر ارتاح للنتائج، وفي العالم الأبعد أيضاً، أميركيون رحبوا وأوروبيون تلقوا رسائل تعزية... إلاّ أن الرهان الفائز كان رهان اللبنانيين الذين وضعوا آمالهم بإمكان إجراء انتخابات تنهي مقولة «الأكثرية الوهمية» والأقلية التعطيلية وتضع حداً لشعارات الأكثرية الشعبية والغالبية النيابية، وتفتح الباب مجدداً أمام إعادة بناء دولة المؤسسات والدستور. وأبرز الفائزين هو رئيس الجمهورية الذي سيتمكن الآن، من إكمال مساهمته في شكل ثابت في عملية البناء تلك، بدءاً من تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة زعيم الغالبية في مجلس النواب سعد الحريري أو من تختاره هذه الأكثرية. كثيرون يرون في الدور الذي يلعبه الرئيس سليمان والذي سيواصله لاحقاً، دوراً مشابهاً لما فعله الملك خوان كارلوس في إسبانيا. ففي هذه المملكة التي عانت أربعة عقود من الحروب الأهلية والديكتاتورية والانقسام، كان على الملك الذي تسلم مهماته عام 1975 أن يقود بلاده الى الاستقرار والديموقراطية. والعمل الأول الذي قام به هو دعوة جميع الأحزاب والقوى السياسية (ومنها من أمضى عقوداً في العمل السري أو في السجون) الى طاولة حوار قادت الى اتفاق على صيغة مشتركة أنقذت إسبانيا من خطر حرب أهلية ثانية بسبب الخلافات العميقة بين الجمهوريين والملكيين واليسار واليمين وبسبب رغبات الانفصال في غير من منطقة. وعرف خوان كارلوس، كما يقول رئيس الوزراء ثاباتيرو «كيف يتحمل مسؤولياته ويمارس مهماته في نظام ملكي ديموقراطي»، فعمل على «دعم الدستور والمؤسسات في ظروف استثنائية صعبة تعرضت فيها الديموقراطية في إسبانيا الى خطر شديد». وبحسب سلف ثاباتيرو، خوسيه ماريا أثنار تمكن «العرش الإسباني من تأمين الاستقرار والثقة والمسؤولية والدوافع الإصلاحية الضرورية والانفتاح على المستقبل»، وبهذه الروحية تصدى الملك لمحاولة الانقلاب واحتجاز النواب في المجلس النيابي عام 1981 لتستقر إسبانيا بعد ست سنوات من تسلم خوان كارلوس الحكم في طريقها الديموقراطي الجديد. ليس التذكير بتجربة الملك الإسباني مناسبة للقول بتماثل بينه وبين ميشال سليمان، ولا بين إسبانيا ولبنان، ولكن، للقول إن لكل بلد ظروفه الصعبة، والذي يصنع الفارق هو رجالات هذا البلد. بهذا المعنى لا يمكن توقع استكمال بناء المؤسسات في حقبة ما بعد الصراع الأهلي والوصاية، إلا باستعادة هذه المؤسسات وفي مقدمها مجلس النواب دورها، وترجمة هذا الدور تتحقق مباشرة في تركيب الحكومة الذي يتيح لرئيسها المقبل إمكان ممارسة الحكم. وفي الحالة اللبنانية، لن يكون الطموح الى معادلة يتشارك فيها رئيس الجمهورية والغالبية النيابية أكثرية الوزراء أمراً مستغرباً، بل هو مطلب حقيقي إذا أُريد للبنان أن يخرج نهائياً من أزمته. * صحافي من أسرة «الحياة»