بينما تعجز المعارضة الديموقراطية الضعيفة والمترددة عن جبه سياسة الرئيس بوش العراقية، وتظهر أمارات اليأس والإحباط على رأي عام لا يرى ضوءاً في الأفق، يسعى الرئيس الى تغيير الأهداف التي تريد سياسته تحقيقها، وأعلن عنها مرات كثيرة، والانصراف الى إدارة حرب لا يعلم أحد نهايتها. واستغل بوش الحال هذه، فانتقل من الدفاع الى الهجوم. وحين كان خصومه يقارنون بين الورطة العراقية والورطة الفيتنامية قبل أربعين عاماً، أعرب بوش عن رأي مخالف، وقال إن الانسحاب المتسرع من فيتنام أدخل مفردات جديدة الى اللغة السياسية الأميركية مثل"بوت بيبول""شعب المراكب"الفيتنامي الهارب من الحزب الشيوعي وپ"كريلينغ فيلدز""حقول القتل"الكمبودية غداة استيلاء الخمير الحمر على كمبوديا. وليست الخطابة السياسية هذه، يصاحبها التذكير الرتيب بالتهديد الإرهابي وعمومه، تكتيكاً خالصاً، بل هي جزء من استراتيجية جمهورية بعيدة المدى. ومنذ خطبة 13 آذار مارس 2003، وهي الأولى من صنفها أعلن فيها الرئيس الأميركي غزو العراق، خطب بوش الشعب الأميركي 8 مرات. فبعد الخطب المتفائلة، والمنددة بخصوم الأميركيين وضعفهم، تحول الهدف العراقي من الوعد بانتصار قريب ووشيك، يعقبه بناء ديموقراطية عراقية وارفة، الى التلويح بطيف الإرهابيين، وبملاحقتهم الأميركيين في عقر دارهم إذا نحن تركنا العراق وأجلينا قواتنا عنه. ولم ينفع التلويح والترهيب هذان، ففاز الديموقراطيون بالمجلسين، وانتصروا على حزب الرئيس الجمهوري في الانتخابات النصفية، آخر 2006. فما كان من بوش، في خطبة كانون الثاني يناير 2007، إلا المبادرة الى رسم استراتيجية عراقية جديدة. وعمد الى تعريف"النصر"في العراق تعريفاً جديداً، من غير التخلي عن العمل في سبيل مستقبل عربي للديموقراطية. ولكنه اضطر الى الإقرار بأن الاستراتيجية لم تبق ما كانت عليه في أوائل الحملة. وأرفق إقراره هذا بإرسال قوات جديدة تساعد العراقيين على استعادة السيطرة على بغداد. وبعد ثلاثة أشهر، في مناسبة انقضاء أربعة أعوام على الاجتياح، أمر بوش 30 ألف جندي أميركي بالتوجه الى بغداد، وشرح للأمة أن مهمة هؤلاء بلوغ"درجات"أو"مراتب"أمنية تخول الكونغرس الأميركي مطالبة السياسيين العراقيين بالوفاء بتعهداتهم السياسية، واشتراط الوفاء هذا للمضي الى مساندتهم. ولم يسع الجنرال بيترايوس الجواب بالإيجاب عن سؤال لجنة الاستماع والمداولة: هل تقوي الحرب في العراق حظوظ الأمن الأميركي؟ ولاحظ مدير جلسة الاستماع أن الجنود الأميركيين الذين يحاربون في الميدان العراقي يستحيل نقلهم الى مسرح آخر. وأغفل بوش، في تصريحاته اللاحقة، مناقشات جلسات الاستماع هذه وأسئلتها وأجوبة المسؤولين السياسيين والعسكريين جميعاً. وهؤلاء لم يتستروا على واقعة ظاهرة. فقد تكون الإجراءات التكتيكية ناجعة، لكن القوات الأميركية على شفا الاستنزاف. وعليه، ينبغي ابتداء الانسحاب في نيسان ابريل 2008. وبديل الانسحاب استئناف الخدمة العسكرية الإلزامية. ولن يعدم هذا نشأة حركة شعبية مناهضة للحرب، على شاكلة الحركة في آخر العقد السابع، وأوائل الثامن من القرن الماضي. وكانت زيارة بوش العراقية الأخيرة الى الأنبار، وليس الى بغداد التي تعج بسياسييها المتنافسين والفاسدين والمقيدين. والتعويل على العشائر، وقتالها"القاعدة"، يرجئ الانسحاب الى أجل غير مسمى. وقرينة أخرى على إرجاء الانسحاب هي تشييد السفارة الأميركية الضخمة في بغداد. فبناء قلعة مثل هذه لا يؤذن بوشك الجلاء. وهذه السفارة حاجز بين الديبلوماسيين وبين انتهاج ديبلوماسية علنية تقتضي الاختلاط بالناس. فهي آية سياسية غير متماسكة. والنصيحة التي يود المواطن إسداءها هي تلك التي نصح بها شيخ منتخب الرئيس ليندون جونسون: ينبغي إعلان النصر ثم الجلاء والمغادرة. عن ديك هوارد مؤرخ أميركي وكاتب سياسي، "إسبري" الفرنسية، 10/2007