إن حياة العنكبوت معلقة بخيط، لكن هذا الخيط الحريري يتميز بخصائص ميكانيكية لا مثيل لها، ومن هنا فإن الاستراتيجيات العلمية تركز على استنباط تقنية تتيح للعلماء انتاج هذه الخيوط اصطناعياً لاستخدامها في مجالات الطب والدفاع والرياضة وغيرها الكثير. يعتبر حرير العنكبوت مادة استثنائية نظراً إلى العناية القصوى التي تتمتع بها خيوطه من حيث المقاومة والمرونة والقدرة على التمدد في آن معاً، مما يجعلها الأفضل بين الألياف الاصطناعية المتوافرة حتى الآن. وينتظر العلماء التوصل إلى تقنية لانتاج حرير العنكبوت بطريقة اصطناعية بفارغ الصبر لاستخدامه في الوقاية من الأسلحة الباليستية والسترات الواقية من الرصاص وفي خياطة الجروح وترميم الغضاريف وما إلى ذلك. لكن العنكبوت، وخلافاً لدودة القز التي تم تدجينها منذ أربعة آلاف عام، لا تقبل الأسر والترويض، لذلك عمد الباحثون مع تقدم التكنولوجيا الاحيائية إلى التوجه صوب انتاج حرير عنكبوت اصطناعي. فبعد أربعين عاماً من الأبحاث المتواصلة، استطاع الباحثون منذ حوالى العام فقط في فك لغز تكوين الليف الشفاف الذي يدخل في تركيب حرير العنكبوت أو الحشرات القزية، وهو يتألف من نوعين من البروتينات على الأقل أو ثلاثة أو أربعة تتجمع على شكل حلقات مكررة، معقدة التركيب والتنظيم، حيث يتألف قسم منها من البلور الشفاف الذي يمنح الحرير مقاومته وهناك مناطق أخرى في هذه الحلقات من دون تنظيم واضح تعطي للحرير خاصية المرونة وقابلية التمدد. يحاول بعض الباحثين انتاج بروتينات حرير العنكبوت عن طريق اللجوء إلى البكتيريات والخمائر والخلايا الثديية كوسائط، وبدأت الشركة الكندية NeXia منذ عشر سنوات بتمويل من وزارة الدفاع الكندية بالعمل على تطوير هذه البروتينات واستخراجها من حليب عنزة قرفة بعد تحريفها وراثياً. وأكد رئيس الفريق أن الشركة قادرة اليوم على انتاج كيلومترات عدة من الألياف، ومن المقرر استخدامها في عمليات العيون لتحل مكان خيوط النايلون المستعملة حالياً خلال سنتين على أبعد تقدير. أما السترة الواقية من الرصاص، فسيتم انتاجها من هذه الألياف خلال ثلاث سنوات. وفي الواقع يتم تكثيف الحليب وتحويله بروتين مركز قبل القيام بغزله، لكن مقاومة هذه الألياف لا تزال تقل بمعدل خمس إلى عشر مرات مقارنة بالألياف الطبيعية. لذلك يعكف فريق الخبراء على تحسين شروط الغزل بوجه خاص لرفع فعالية حرير العنكبوت الاصطناعي الجديد ونوعيته. وهناك مشروع آخر أطلقته جامعة اكسفورد البريطانية يتعلق بتقنية فتل أو غزل البروتينات بطريقة مماثلة لما يفعله العنكبوت. ومن المقرر أن يتم إعادة هذه التقنية في إطار المشروع الأوروبي الذي يحمل اسم "رجل العنكبوت"، وسيستمر لمدة خمس سنوات بهدف انتاج بروتينات تتلاءم مع الجسم البشري لاستخدامها في تطوير غضاريف اصطناعية والأجهزة الدقيقة التي يتم دمجها في جسم الإنسان لدى اجراء عمليات الجراحة العظمية كالصفائح والخرزات والبراغي. وتم اختيار أنواع خاصة من العناكب يتناسب حريرها مع هذه التطبيقات، وتم التأكد من ملاءمتها وصلاحيتها احيائياً عبر سلسلة من الاختبارات السريرية الناجحة. ويعكف الباحثون الأوروبيون حالياً على استنباط الطريقة الفعالة لانتاج البروتينات المطلوبة بكميات كبيرة ونوعية عالية عبر استخدام الخمائر وزراعة الخلايا. كما تتم دراسة طرق أخرى منها انتاج الألياف بواسطة ديدان القز المحرضة وراثياً بسبب تشابه جهازها المنتج للحرير مع جهاز العنكبوت. وبالفعل، فقد شرع فريق من الباحثين المختصين في مجال التحريف الوراثي بنقل جينات عدد كبير من الحشرات القزية ونقلها إلى أجيال أخرى تم بواسطتها انتاج البروتينات المطلوبة، مما يبشر بالتوصل قريباً إلى مواد احيائية أو ألياف جديدة لاغراض طبية وصناعية في المستقبل المنظور