يعتقد كثيرون بأن المجتمعات الخليجية مرفهة الى حد التخمة وانه لا وجود لما يسمى بالطبقة الوسطى او الفقيرة، حتى ان المنظمات الدولية المعنية بشؤون التنمية تظهر دهشتها من ازدياد الظواهر الاجتماعية المسيئة لصورة مجتمعات الوفرة التي تستدعي حسد الآخرين ونقمتهم احياناً. وعلى رفوف مكتبات دول الخليج العربية التي تعيش الكثير من القلق منذ الحرب العراقية الايرانية ثم احتلال الكويت وما نتج عنهما من انفاق عسكري على حساب التنمية، نتاج مكتوب يتعاظم مع ازدياد اهتمام الباحثين بإصدار كتب ودراسات تطرح الاسئلة الصعبة عن مستقبل المنطقة خصوصاً وان دول الخليج العربية فتية وما تزال في طور الخروج من عصر القبيلة الى زمن الدولة العصرية والطريق امامها ما يزال طويلاً كي تستكمل بناء مؤسساتها وهياكلها الادارية والتنظيمية وتطفو على السطح فيها قضايا مجتمعية وأزمات معيشية ما كان مفترضاً ان تعيشها مثل هذه المنطقة الغنية باعتبار ان الصورة المستقرة في ذاكرة الجميع هي صورة المدينة الخليجية الحديثة المفعمة بمظاهر الرفاهية والترف والتسهيلات العصرية، وقلما تتاح لهم فرصة ولوج عالم القاطنين على حواف الدول او في قلبها الجغرافي، ففي الخليج مجتمعات حضرية ساحلية كانت على الدوام محط انظار المؤرخين والمستشرقين والرحالة والعابرين بين الشرق والغرب بحراً وجواً لكن المناطق الداخلية التي تحتضن معظم الشريحة الأصلية من السكان استمرت تتعايش مع خصوصيتها الجغرافية والثقافية والاقتصادية في آذار مارس من العام 1995 عقدت قمة عالمية في كوبنهاغن خصصت اعمالها للتنمية الاجتماعية في وقت تعاني فيه انظمة الرعاية الاجتماعية في دول العالم قاطبة من صعوبات ومشاكل معقدة من ابرزها اتساع خارطة الفقر والحاجة الماسة لتعزيز التفاعل بين السياسات الاقتصادية والاجتماعية وضمان التزام برامج التكيف الهيكلي بأهداف التنمية الشاملة وبطبيعة الحال نالت الفئة المهمشة في مجتمعاتها اهتماماً خاصاً. وفي منطقة الخليج اتسع مفهوم الرعاية مطلع السبعينات من القرن الماضي ليشمل شبكة عريضة من الخدمات الأخرى كتوفير السكن الملائم والماء والتعليم والصحة اضافة الى دعم سلع اساسية كثيرة فضلاً عن تقديم خدمات كثيرة مجاناً كحق مقرر قانوناً بما يؤدي الى الارتقاء بمستوى المعيشة ونوعية الحياة عموماً. وبالفعل تميزت خطط الرعاية الخليجية بضخامة حجم الانفاق الحكومي على برامجها خاصة ايام الطفرة الكبرى في اسعار النفط وزيادة عوائد الثروة الطبيعية الرئيسية تعويضاً عن عقود طويلة من الحرمان والعوز اثر انهيار اقتصاديات اللؤلؤ الطبيعي وقلة موارد الحياة في المنطقة مطلع القرن العشرين. وبعيداً عن تفاصيل خطة اعادة تنظيم حياة المجتمع ضمن تشكيلات حضرية واجتماعية وسياسية والتي أنجزت الكثير خلال زمن قياسي وكانت موضع اعجاب المجتمع الدولي فإن حال القلق التي تعيشها دول الخليج وارتفاع حجم الانفاق في الجانبين الدفاعي والامني يعطل خططها التنموية منذ عقدين بالتزامن مع ارتفاع اعداد السكان المحليين والوافدين بما يتخطى امكانات هذه الدول من حيث الموارد الطبيعية واقتصاديات السوق حتى ان بعضها يلجأ الى الاقتراض من البنوك الدولية والاقليمية. في كتاب أصدره مركز الامارات للبحوث الانمائية والاستراتيجية تحت عنوان "برامج الرعاية الاجتماعية في دولة الامارات العربية المتحدة" أنجزه الباحث طه حسن حسين واشرف عليه وقدم له الدكتور يوسف الحسن وصدر العام 1997 دعوة الى ضرورة اعادة النظر بما تحقق بناءً على الحاجة الماسة لمراجعة التجربة في وقت ارتفعت فيه وتيرة الحديث عن السياسات البديلة للانفاق الحكومي وضرورة الاعتماد على الذات وتوفير برامج التدريب اللازمة لاكتساب القدرة والمهارة لممارسة اعمال منتجة ومقنعة. وارتفعت نسبة المؤتمرات والندوات في المدن الخليجية الرئيسية فلا يكاد يمر يوم من دون الاعلان عن مؤتمر او اجتماع للبحث في الظواهر الاجتماعية وقضايا المجتمع المدني وجمعيات النفع العام الى آخره من العناوين التي تشغل الصحافة المحلية وتصبح مادة قابلة للتحليل تحت مجهر الجهات الدولية المعنية وواضعي تقارير معدلات التنمية البشرية السنوية لكن فئة مهمة من مجتمعات المنطقة يرد ذكرها لماما تحت مسمى المناطق النائية او الريف او البادية في بعض البلدان تبقى غالبا على هامش البحث والانجاز ويعيش سكانها على وقع الهزات الارتدادية لاحتمال نشوب حرب في المنطقة في مطلع القرن 21، يراقبون عن بعد نذرها وما ستجلبه لهم من هموم اضافية بعدما توقف نمو مناطقهم وقلّت مواردهم وتكاثرت احتياجاتهم باستقرار الجفاف سنوات طويلة بين ظهرانيهم. رحلة بين قرنين في وادي السدر المعقل الرئيسي للصريدات احدى القبائل الجبلية في الامارات كان لافتاً ما قاله الشاب سعيد الصريدي وهو يرافقنا الى بيوت الأمس التي عاشت فيها عائلته في واد ناء عن موقع سكنهم الحالي حيث البيوت الشعبية الحديثة التي بنتها لهم الدولة مطلع الثمانينات ضمن خطة اعادة توطين القبائل وفق مقتضيات خطة التنمية والإحلال، ذلك ان قبائل جبلية كثيرة كانت تعيش في أودية شديدة الوعورة حيث توصيل خدمات البنى التحتية اليها مكلف جداً فكان ان اتفق على مواقع جديدة أقرب اليها بنيت فيها البيوت بحيث يصبح سكانها اقرب الى الاستفادة من مقومات الملامح العصرية للحياة اليومية، فقد توقف سعيد رفيق رحلتنا امام مجموعة من القبور المتراصة في موقع من الوادي الموحش وقد أُحيطت بسياج شائك ليخبرنا بأن من رقدوا تحت تراب المكان هم بعض أجداده وأفراد كثر دفعوا حياتهم ثمن نزاعات قبلية مع قبائل اخرى نافستهم على المرعى والامكانات القليلة المتاحة في زمن ما قبل الدولة والاتحاد وإن ما تبقى من حجارة في بيوت المكان اقتطعت بجهود يدوية من قبل رجال العائلة كدليل على صعوبة الحياة وقلة مواردها قبل النفط والثروة. وسعيد مقبل على الزواج ويريد تكوين اسرة مع فتاة من قريته يعلا بوابة الوادي الكبير معقل القبيلة، واكتفى ببناء بيت صغير يناسب قدراته المالية وبقرض ميسر ويكتفي سعيد بقيادة سيارة يابانية مستعملة اشتراها تنقله الى مركز عمله كل يوم ولمسافة طويلة ويبدي أسفاً على الوقت الضائع من حياته على الطرقات وهو يعبر اكثر من 400 كيلومتر يومياً ليعود بعدها منهكاً وليتخلى عن هوايات محببة الى نفسه مثل الخروج الى الجبال او زيارة نخيل العائلة في عمق الوادي بضع اشجار نخيل تتوارثها العائلة منذ اجيال وتوفر لها تمورها مردداً: "لم يعد هناك نخيل يثمر في وادينا منذ ان حلّ الجفاف ونشتري تمورنا من اماكن اخرى". ماذا بعد بيوتكم القديمة هنا وماذا بامكاننا ان نرى في واديكم؟ سألناه ونحن نحث السير خلفه بين ممرات صخرية لا تسمح بعبور اكثر من شخص في المرة الواحدة فرد سعيد بأن والده خرج منذ صلاة الفجر باحثاً عن اسبان العسل وفهمنا منه ان سبن العسل هو قرص العسل في لهجة أهل الجبال وان والده يمارس عملاً جاداً وليس هواية للترفيه بخروجه باحثاً عن رحيق أشجار الصحراء المشغول بتعب نحل الجبال البري يبيعه ويستفيد منه اقتصادياً لو كانت الطبيعة الأم كريمة مع ناس المكان، وكان لافتاً فعلاً قيام أحمد الصريدي الشرطي، المتقاعد بفعل القوانين وليس السن خدم لمدة عشرين عاماً وأُحيل للتقاعد وهو في الاربعينات ويتقاضى راتباً تقاعدياً لا يكفي لسداد جميع احتياجات الاسرة بالبحث عن موارد اخرى ولأنه ابن الريف فقد كانت الزراعة وتربية الماشية وجني العسل موارد مساندة، لكن جفاف السنوات الماضية اصاب الصريدات وغيرهم من عائلات الجبال في مقتل وما هي الا لحظات حتى فوجئنا بسعيد ينادي أباه من قاع الوادي ويجيبه الوالد بأنه في طريقه الينا. وسرعان ما غادر الصريدي الأب قمة الجبل ليقف امامنا خلال لحظات وقد امتلأ وعاء بين يديه بالعسل وبابتسامة الرضا التي عرف بها سكان المنطقة، وبعد عبارة الحمد لله خير الله كثير، مدّ الوعاء باتجاهنا لنتذوق عسل السدر الجبلي الذي يعتبره دواء ولكن هذه الكمية النادرة التي عاد بها حالة استثنائية، فلم يعد نحل الجبال يهوى جبالنا، على حد قوله. وتابع أحمد: "تزداد صعوبة الحياة بالنسبة لنا يوما بعد يوم فقد نضبت آبارنا وغاب الماء الجاري عن أوديتنا ويبس نخيلنا ولولا الرواتب الحكومية والمساعدات التي نتلقاها بين وقت وآخر من جهات رسمية وشيوخنا لوقعنا في عجز كبير". ويتساءل الأب: "هل يمكن ان يستمر الحال طويلاً على هذه الصورة فقد أطلقنا اولادنا نحو التعليم والآن حان وقت التحاقهم بالعمل، ولكن اين فرص العمل؟ في المدن الكبيرة وفي الجيش والشرطة ومعظم شبابنا في مهن عسكرية وهذا مدعاة فخر لنا لأنها مهن الرجولة وإثبات الذات، لكن بلادنا تحتاج لأولادها في الكثير من المجالات والحديث عن وجود بطالة نراه يومياً في الصحف اما ما يتعلق بنا في المجتمعات الريفية القروية فهو ما يشغل بالنا فقد عاش اهلنا قرونا طويلة في حال اكتفاء ذاتي لا بل تبادلوا المنافع مع مجتمع الحضر في الساحل اما اليوم فإن المجتمع الحضري يستأثر بكل الفرص وأولادنا ومناطقنا ترتفع نسبة السكان فيها ولا تتسع مساحة العمران او البنى التحتية بين أرجائها الا نادراً فمن بإمكانه ايجاد حلول مقبولة للجميع؟". الدهامنة يريدون الاطمئنان في واد آخر تعيش قبيلة الدهامنة وهي موزعة ما بين امارتي الفجيرة وراس الخيمة، ابناء عمومة توحدهم الهموم اليومية وتقتات الحياة العصرية التي يصفونها بالمعقدة لكثرة متطلباتها من أعصابهم وضيق أفق الحلول. يقول الجد المسن وهو يحتضن ابناء اكبر اولاده الذكور سعيداً بشقاوتهم في بيت يزداد عدد الغرف فيه ولا تتسع مساحته ابداً منذ الثمانينات عندما كان الأبناء صغاراً واحتواهم الدار: "المشكلة الرئيسية والمقلقة بالنسبة الى سكان المناطق النائية هي توفير السكن والبيوت للعائلات الجديدة، فكلما تزوج أحد الأبناء بنينا له حجرة او اثنتين اضافيتين في المساحة التي خصصتها الحكومة لما يسمى الحوش او الحديقة فلا حدائق لبيوتنا وكانت مزارعنا تعوضنا عنها، نذهب اليها يوميا نزرعها بالأعلاف ونبيع من خيراتها ما يتوافر لكن الجفاف قتل معظم أشجارنا وأحياناً جميعها، وبتنا نشتري منتجات الأسواق نربّي الإبل في عزبة برية ونبيع الجعدان للأعراس والمناسبات ونحافظ على سلالات اصيلة منها للسباق وكانت تشكل لنا مورداً طيباً إلا ان ارتفاع تكلفة العلف وقلته وغياب الدعم الحكومي عن اصحاب الإبل وعدم قدرتنا على تحمل نفقات تربيتها أودى بها الى المذبح وهذا مجال للعمل خسرناه وقد أصبت بمرض السكري منذ سنوات بعد رحلة كفاح طويلة عملت خلالها مع قوات ساحل عمان كجندي قبل اعلان اتحاد الامارات ثم التحقت بوظيفة حكومية واصبحت متقاعداً وأحمد الله ان ابنائي يعملون، فالبعض منهم في التربية والتعليم وبعضهم الآخر في القوات المسلحة". ومن المشاكل التي تواجه الأبناء صعوبة الحصول على ارض سكنية في منطقة الوعرة. اذ استنفدت المساحات السهلية في جميع المناطق المشابهة في الدولة، ومن الصعب الانتقال الى منطقة اخرى بعيداً عن الأهل والعزوة وتلك مشكلة تواجه الكثيرين. ويختلف الأمر بالنسبة الى سهيلة الصريدي التي تتقاسم الحياة مع والدتها عند بوابة الوادي فمع حلول العام 2003 وقع الحادث المفرح الذي تمنته طويلاً وهو إحلال بيت الدعن او البيت القديم المسقوف بسعف النخيل وبناء بيت اسمنتي بدلاً عنه، تقول سهيلة التي تتقاضى راتباً شهرياً هو عبارة عن مساعدة تقدمها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية للمطلقات من نساء الامارات، ان قيمة المساعدة لم تسمح لها ببناء بيت لكن مساعدة شقيقها لها وفرت البيت المناسب لتمضية ما تبقى من العمر من دون التعرض للدغات العقارب والثعابين وهي كثيرة في منطقتها الجبلية خصوصاً ان والدتها المسنة ضريرة وتحتاج الى من يساعدها على قضاء حاجاتها. ولأن سهيلة امرأة صلبة تشبه البيئة المحيطة ببيتها الذي يعتلي يسار الطريق الى واد يعج بالحياة وتحفه الصخور من كل جانب فإنها أوجدت لنفسها مواردها الخاصة من تربية الذبائح من الأغنام وتحتار في أمر تأمين غذائها بالخروج الى التلال وقص الأعشاب البرية على قلّتها. وواجهت صعوبات كبيرة في المحافظة على حياة أمهات القطيع الصغير خلال العامين الماضيين. قالت سهيلة: "لم أعش مدنية النفط والطفرة، فقبل العامين الماضيين ولاحظت ان بقالة صغيرة فتحت أبوابها على مقربة منا يديرها هندي وأشتري منها بعض الحاجات الضرورية بدلاً من الذهاب الى سوق دبا البعيد نسبياً عنا كما كنت افعل في الماضي وبمعدل مرة في الشهر، اضافة الى بعض السيارات التي تعبر من هنا يقودها شباب المنطقة". وتضيف سهيلة: "في بيتي جهاز تلفاز لم أستعمله الا نادراً لانني أفضل الجلوس مع أمي في الحوش الخارجي". أما الجدّة، أم مبارك، وهي بدوية أصيلة تعيش في البادية الرملية وتنتسب الى بني قتب احدى القبائل الكبيرة في المنطقة الوسطى من البلاد، فإن ما يشغلها فعلاً وهي شاهدة عيان على ما حدث من متغيرات في صحراء الذيد ومحيطها، ان تكون الحال افضل بالنسبة الى أحفادها الكثر، وقد تخرج العديد منهم إناثاً وذكوراً من الجامعة ففرص العمل في محيطهم تكاد تكون معدومة. وتبدي أسفها على ما بذلته حفيداتها من جهد في الدراسة لأن فرص الفتيات أقل بكثير من الشباب. اما الجد علي خليفة السويدي من مدينة شعم الساحلية وهي مدينة صيادين وبحارة ومزارعين في قديمها وبعض حاضرها فيقول ان البحث عن الرزق والفرص يحتاج الى حس المغامرة والإقدام الواجب توافره عند الانسان سواء كان في دولة غنية ام فقيرة. ويسرد حكايات مشوقة عن مغامرات كثيرة بعضهاً كان مخيفاً قبل الوفرة وبعدها عندما كان يتاجر بالذهب عابراً مناطق وعرة لتوصيل ذهب العرائس الى حيث يعيشون وكيف تابع مسيرة العمل والتجارة بعد الوفرة واستقر بعيداً عن اهله وعشيرته في الشارقة لأن رزقه في الجبال افضل، وها هو الآن سعيد بما تحقق ويقوم ببناء مساجد على نفقته ويعيل أسراً محتاجة ويؤدي واجباته الدينية والدنيوية كما يجب مردداً بأن الدولة يجب ان تفكر بالمتقاعدين وهم في أوج عطائهم بدلاً من إضافتهم الى صفوف العاطلين عن العمل وتوفير موارد رزق لهم في مناطقهم بإقامة مشاريع صغيرة او دعمهم لاقامة ورش ومصانع صغيرة بتقديم قروض ميسرة لهم. هذا قليل من كثير سمعناه في ريف الامارات ويردده آخرون في أرياف المنطقة الخليجية، في وقت يزداد فيه القلق من حولهم ويرتفع عدد المواليد في بيوتهم ويشكلون المخزون السكاني الأكبر لبلدانهم. وهم في اي حال يخشون السنوات المقبلة مع ازدياد التقشف وخفض الانفاق الحكومي لسد احتياجات الأمن والدفاع