يتفاخر اهل لوس انجيليس بضيعة بيفرلي هيلز الغنية، حيث تسطع عليهم كل صباح العلامة البيضاء الضخمة لكلمة "هوليوود"، تلك المساحة الرمزالتي تضم العصبة السينمائية لاعتى شركات انتاج الافلام في المعمورة، والتي تسند الخزانة الاميركية بعائدات لا تجاريها سوى صناعة الاسلحة. بعيدا هناك في الطرف الاسيوي من العالم يقبع مثلث سينمائي يقارع هوليوود بضعف العائدات والانتاج والنجوم، لكن من دون ان يمتلك سطوع تلك العلامة البيضاء الضخمة. انها في الواقع صناعة جبارة لا تحتاج الى رموز او اشارات تثبت مواقع تحصنها على الارض،اذ ان الامر في الضد من مشروعها الخيالي القائم على الايهام بالثراء وحكايات الغرام والمصالحات الاجتماعية والبطولات الغرائبية، حيث ينتصر الخير دائما على الشر، ويسعد الحبيب بمحبوبته. انها "بوليوود"، سينما المتعة المطلقة، التي تعج بالرقص والغناء والاحلام والالوان والطقوس والميلودراميات، وكل هذا برسم 21 مليوناً من المشاهدين من بين بليون انسان الذين يدمنون الذهاب الى السينما يوميا، شغفا بنجومهم او هربا من واقع ضاغط يفرون منه الى قصص مختلقة، كثيرها مكرر وضعيف المستوى التقني، ناهيك عن الاقناع. بيد ان هذه الامور لاتقف عثرة امام الاكتساح المنظم لهذه السينما في ارجاء العالم حتى تحقيقها انتصارها المدوي الاخير المتمثل في اختراقها ترشيحات الاوسكار الاميركي عبر أكثر الاشرطة شعبية والذي ضم نصف دزينة من مشاهد الرقص والاغنيات: "لاغان" للمخرج آشتوش غواريكاروانتاج النجم الشاب ذائع الصيت امير خان وهو الثالث فقط في تاريخ السينما الهندية الذي يفلح في دخول منافسات الجائزة المرموقة في سوق السينما الدولية. السينما الهندية بشقيها التجاري والآخر الذي تصنعه ثلة من خوارج هذه السينما الساعين الى انجاز أشرطة راقية هو الذي تُعرف به، لكنها في الواقع ثلاث سينمات في آن: الاولى وهي الاكبر والارسخ والاغنى والقائدة تُنتج في مومباي الاسم الرسمي لمدينة بومباي16 مليون نسمة متخصصة بالفيلم الناطق بالهندية الرسمية. والثانية تصدرها مدينة تشناي سابقا مدراس عاصمة الافلام الناطقة بالتاميلية. والثالثة تأتي من مدينة كولكات سابقا كلكتا عاصمة السينما الناطقة بالبنغالي الهند تعترف ب 16 لغة رسمية من بين 50 لغة اثنية تشتمل عليها اقوام شبه القارة المترامية الاطراف، اما في باكستان فان صناعتها تتركز في مدينة لاهور المعقل الذي يطلق عليه اسم "لوليوود". هذا التنوع الفاقع يمد "بوليوود" بمفاخرة من نوع فريد، فاذا كانت هوليوود قد حاولت تعميم النموذج الاميركي بمستوياته المختلفة، بما يمثل ارساء اعلاميا ودعائيا لقوته وفرادته على صعيد النعرة القومية تفوق القدرة الاجتماعية التي يعززها التفوق العسكري وخطاب السياسة تفوق مؤسسات المجتمع المدني واتساع هوامش استقلالية قرارها وشراسة الخطاب الايديولوجي التفوق في قرار الاستعداء او الاسترضاء لاي طرف دولي حتى وان لم يوجد مسوغ اوتبرير لذلك، وصنعت هوليوود من اجل ذلك مئات الاشرطة التي هدفت اما لتحوير التاريخ اوالتشهير بشعوب عدوة اوخلق ابطال وصلت قدراتهم الى حد مقارعة وحوش الفضاء، ناهيك عن البطل الاجتماعي الذي يحول سقوطه الى انتصار مدو، فان بوليوود ضربت وترا آخر عماده التغفيل المقنن، فالبطولة الهندية لاتمس آخرين خارجين، بل ان المسيىء هو دائما من بين اهل الحي او العائلة وقرار تحييده او تدميره حكم على التفوق الفردي للبطل الخيّروهو في الغالب الشاب الوسيم الذي تتعلق بولهه الحسناء الساذجة، وهنا لا تسعى افلام بوليوود الشعبية الى تعميم نموذج ما اواشاعة قوة ما على حساب آخرى، وهو امر سيفهم بجلاء حين نعرف ان وجود العشرات من الاثنيات والديانات في البلاد لن يسمح باستغلال النعرات القومية وافساد تجانسها الهش مثالها ما يحدث اليوم من مواجهات بين المسلمين والهندوس. الفيلم الهندي التجاري باطيافه العرقية يكرس الحكايات التي تتطابق مع الواقع المحلي وباقصى درجات النزعة الاخلاقية، فالفقر لايُحل بالسرقة، والمنصبية وعبرها الوجاهة لاتتم بالتحايل، والفوز بقلب الحبيبة لايتم بخيانة القيم، والوطنية لن تُزكى الا بالاجماع العائلي كتواز للاجتماعي العام، والتاريخ حينما يستعاد لايتم الا باكبر قدر من الابهة، والعدل يُعرض باعتباره مكسبا للجميع. لذا يعتمد الشريط الهندي على عنصرين يكمل احدهما الآخر: الاخياركعرف اجتماعي وسياسي يجب ان ينتصروا مهما كلف الامر. والنهاية السعيدة كحكم درامي واخلاقي لا حياد عنها. هذا التكرار ولّد نجوما مكررين يؤدون ادوارا مكررة، لن يهتم المتفرج الهندي ولاحقا من ينبت فيهم ولع هذه السينما، والشعوب العربية غير مستثناة منه بان مايراه هو نسخ مكررة. اذ ان مايتابعه هو وهم موقن اي ذلك المشاهد ان خيراته لن يَصيب منها شيئا سوى المتعة الملفقة. اذن ما سر تجدد الشغف واستمراريته بالفيلم الهندي الشعبي التجاري؟ الجواب: النجوم واطلالاتهم السحرية. فهم ايقونات مضيئة وسلع لافكاك من أسرها تشع صورهم وأخبار النميمة الملفقة حول يومياتهم على اغلفة مجلات هندية شهيرة مثل ستاردست وفيلم فير وسين بلتز ، وهم يمثلون المقطع الناقص في الوسامة الضائعة لدى محبيهم امثال سلمان خان، هرتيك روشان، شاه روخ خان، ابيشال باتشان ابن النجم آميتاب، او الحُسن الهارب من وجوه تلك الفتيات اللواتي يتشبهن بشهيرات مثل تابو، سونالي بيندري، كريشما كابور، آشواريا راي، كارينا كابور، مادروي ديكست وغيرهن بالعشرات. انهم مراكز الحلم العصي للشهرة والمجد والثراء: يحصد النجم الشاب او الشابة اليوم مايوازي 20 في المئة من موازنة أي فيلم يقبل بادائه، واغلبهم يعمل في عدة افلام دفعة واحدة. والجلي ان هذه النجومية ليست بمستطاع أي وسيم او ذات حُسن، فالى جانب الحظ، هناك الكثير من الترتيبات العائلية كشكل من وراثة الصنعة والسمعة التي لن يسمح التفريط بها ابدا، كما هي الحال في عائلات كابور وكومار ودوت وخان وماهتا وغيرها، وهؤلاء الورثة مخلصون لمهنة آبائهم، فقد أعرضوا عن الصنعة الجديدة المسماة الفضائيات، التي بدت انها ستسحق صناعتهم، فابوا وشدوا من عزيمتهم جميعا في دعم السينما مدخلين قيماً جديدة في غالبيتها انتحالات غربية القبلة وهي فعل غير مرغوب وشبه ممنوع، تسريحات الشعرالمزيت على طريقة جون ترافولتا، الازياء الغربية، رقصات الهيب هوب والراب الاميركيتان ...وغيرها، بل عمدوا الى اختلاق بعض الفضائح مثلما فعلت الحسناء مادروي ديكست التي فجرت قضية اخلاقية وصلت الى المحاكم حينما غنت كلمات ذات توريات جنسية واضحة تقول "ماالذي تحت ردائك؟" في فيلم "خالناياك"1993، وبعد اربعة اعوام أغتيل غولشان كوماروهو اكبراحتكاري لسوق الفيديو في البلاد، واتهم الموسيقار نديم بالفعلة، وقبل عامين تعرض المنتج النافذ راكيش هرتيك لعملية اغتيال فاشلة اتهم بتدبيرها تاجر ماس شهير اراد دخول لعبة الانتاج السينمائي بإي ثمن، لتُكشف الحقائق حول جرائم وتصفيات وابتزازات جنسية ومالية منظمة على طريقة المافيا في قلب بوليوود تماما مثلما مرت به نظيرتها الاميركية في الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي، مهددة النجوم الشباب بوجوب الرضوخ والقبول بعروض عمل لدى منتج بعينه، مرتبط بعصابة نافذة كما حدث مع السوبرنجم امير خان الذي تحرسه اليوم فرقة خاصة بعدما رفض المهادنة مع تنظيم شقاوات اراد احتكار توزيع فيلمه المذكور. ومثله يحرس مدججون بالسلاح كبير النجوم واغلاهم في السينما التجارية آميتاب باتشان 59 عاما على مدار الساعة منذ ان غامر في ركوب موجة السياسة بترشيح نفسه للانتخابات النيابية قبل اعوام، وها هو يزيد من رصيده بادارته الطبعة الهندية من برنامج "من يربح المليون؟". ناهيك عن جميلات "افلام الماسالا"وهي تورية عن خليط البهارات الهندية الشهيرة اللواتي مافتئن يتعرضن للاقاويل والنميمة ومطاردة عشاق طامحين بالثروة وابتزازات النافذين في السلطة او في محيط الاعلام او المافيات. هولاء الشباب هم رهان بوليوود التي تواجه اليوم صراعا صامتا مع العولمة وهوليوود الساعية من دون كلل والمحصنة باتفاقية "الغات" الجائرة، على ارغام الحكومة الهندية واقطاب صناعة السينما المحلية للقبول بهيمنة الشريط الاميركي المدبلج الى اللغات المحلية، والتي تكللت بانتصارات مالية هائلة منذ النجاح الباهر لشريط "الحديقة الجوراسية" لسبيلبيرغ ومن بعده "تايتانك" و"سيد الخواتم". والسؤال كيف سيستطيع هؤلاء الشباب مقارعة الغول الاميركي؟ الجواب: الاكثار من توابل الميلودراما والسعي الي تقليد الاتقان التقني الغربي في صنعة الفيلم، واخيرا الانفتاح على العالم باتخاذ مواقع تصوير اكثر اثارة وهي نوع من المجاملة للاسواق التي حافظت على ولائها "لفيلم" الماسالا. ولعل شريط المخرج الشاب كاران جوهر البالغ من العمر 29 عاما "K3G" أبلغ نموذج على هذه المساعي، اذ استفاد الى اقصى حدٍ ممكن من كليشيهات السينما التجارية: قصة حب جارف بين طالب النجم شاه روخ خان وزميلته الحسناء كيجول في الجامعة ضمن اجواء المرح وشقاوة الشباب والاغاني والرقصات الباذخة التي لا تلتفت قليلا الى الاجتهاد الدراسي، فالغيرة والمناكدة على قلبي الحبيبين تنهال من كل طرف قبل ان ينتصر الحب الحقيقي، وهي المحنة التي يجب ان يتجاوزها الحبيبان بنجاح وسعادة. ولاجل تقديم هذه الحكاية المكررة بنفس مغاير شدد جوهر على تصوير المشاهد ببذخ وحرفية عاليتي الجودة تتطابق مع المشاهد الخاصة بالفيديو الموسيقي لاشهر المطربين الشعبيين الغربيين، جال المخرج في مشاهد الغناء والرقص بين مواقع ساحرة من جبال وثلوج سويسرا وحتى الرمال المحيطة باهرامات الجيزة التي لم تمنع شدة القيظ فيها من ظهور البطلة وهي ترتدي سارياً مبللا بماء المطر!. حقق هذا الفيلم اختراقا اوروبيا لامثيل له، اذ وصل الى الخانة الثالثة في عروضه الشعبية في بريطانيا، وضمن عنوانه ضمن العشرة الاكثر اقبالا في سوق التذاكر الاميركية. وللمزيد من تطبيع الفيلم التجاري دولياً لم يبتعد فيلم "الماسالا" مثلا عن السياسة، فاخيرا حقق شريط "ثورة: قصة حب" نجاحا معتبرا على رغم قصته العنصرية التي تدور حول حبيبين تفرقهما اقدار الانفصال الهنديالباكستاني! ويلقي الفيلم بالكثير من الملامة على المسلمين بتقطيعهم اوصال الدولة القارة، وقبله "بومباي" لماني راتمان عن حكاية حب مستحيلة بين شابة مسلمة وصديق طفولتها الهندوسي. واليوم يتم تصوير المشاهد الاخيرة من شريط "الهروب من طالبان" الذي يكفي عنوانه لتخمين ما ستقوله قصته!، فيما تهكمت المخرجة ميرا ناير في "زواج المونسون" على فوارق الاجيال التي تتصارع فيما بينها حسب ظروف التقاليد والارث من جهة وفورة الحماسة الشبابية لجيل العولمة والهجرات الذين يلقبون ب "المغتربون الهنود"Non-Resident Indians، وهذا كله مكفول بعشرات الاغاني والرقصات والدموع والآلام التي دفعت حتى المخرج الاسترالي الشهير باز ليرمان الى اهداء شريطه الاخير "الطاحونة الحمراء" الى السينما الهندية تقديراً واعجاباً