قبل عشر سنوات دخل العرب عصر الفضاء. والأحرى ان يقال ان العرب دخلوا العصر عن طريق الفضاء. والفضاء نعني به الفضائيات، ذلك الكائن الذي هبط على العرب ليحدث احدى أكثر الثورات راديكالية في التاريخ الحديث للشعوب العربية. بدأت الحكاية ب"مركز تلفزيون الشرق الأوسط" الذي انطلق من لندن التي تحولت بذلك الى أول عاصمة فضائية عربية. ثم صار لكل بلد عربي فضائيته. وبعد عشر سنوات تبدو تلك الثورة في ذروة زخمها. لا يخلو من تأثيرها بيت أو فرد. وهي ثورة لا ترحم: تتحطم أمام زحفها الحواجز والرقابات، وتتبدل القيم، وينتهي منع العروض السينمائية، ويتحول الغناء رقصاً، وتستعاد التواريخ، وتفقد الأفلام القديمة سحرها اذ تصبح في متناول اليد، ويبدو كما لو ان الديموقراطية عمت، من خلال سجالات سياسية تملأ المحطات وتصل الى حد الاشتباك بالايدي. كل شيء بات موجوداً على الشاشة: الطبخ والأزياء، الأغنية والمأساة، الديموقراطية والشريعة، التاريخ والمستقبل، المسرحية والشعوذة. لم يعد هناك شيء غائب، ولم يعد ثمة شيء محظور. جهاز تلفاز وآلة صغيرة تفك رموز الموجات، وتقفز الألوان داخل البيت. يدخل العالم الصندوق السحري ويتحول صالون المنزل عالماً يضج بالأصوات والأشكال: من مباريات الرياضة، الى الأحداث السياسية الساخنة. انها الديموقراطية الجديدة... المباشرة، ولعلها الصورة الأقرب الى الحرية. ذلك ان الأمر يكاد يفلت من أيدي السلطات. كلها لديها قنواتها المحلية وفضائياتها، لكنها عاجزة عن اجبار المواطنين على التفرج على بضاعتها المحلية! بلمسة أصبع واحدة يشاهد المواطن ما يريد، لا ما تريده له الدولة. ألا يعني ذلك ان هذه الثورة التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين قد تعتبر ذات يوم أهم ما حدث في المنطقة العربية طوال ذلك القرن. وقد تحتل مكاناً بين نكبة فلسطين وهزيمة حزيران وحرب تشرين اكتوبر. وقد تكون أهم من الانقلابات العسكرية التي دمرت عالمنا، وهجمة التطرف الذي يدمر ما تبقى. وقد تكون الرد على كل ذلك. طبعاً يمكن الادعاء بأن الصورة زاهية. ومن هنا تطرح الثورة الفضائية ألف سؤال وألف علامة استفهام. وقد رأت "الوسط" ان تحتفل ببداية العقد الثاني من عمر الفضائيات بهذا الملف الذي يتضمن حوارات وشهادات من أهل المهنة والفنانين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس. يقول الاعلامي اللبناني كميل منسى رئيس تحرير صحيفة "لوريان لوجور" سابقاً، والمدير السابق لتحرير نشرات إخبارية تلفزيونية وإذاعية: "لا يستطيع الإنسان إلاّ أن يتماشى مع التطور التقني الحديث، لذا لم يكن ثمة مهرب من الصعود إلى الفضاء، وكان هذا الصعود هو الأمر الأسهل، لأنه يتطلب المال فقط، والمال موجود لدى العرب، لكن الأمر الأصعب هو البحث عما سنبثه من الفضاء، أي ما سنقدمه من برامج". ويرى منسى اننا "متخلفون على الصعيد الإعلامي بشكل عام، لأن الأنظمة السياسية هي التي تفرض الإعلام الذي تقدمه وسائلنا، وبعض هذه الأنظمة أحادية، أي أنها ليست ديموقراطية ولا تسمح بالرأي الحر، وهما الشرطان الأساسيان لانفتاح الإعلام لينقل وجهات النظر المختلفة، وليحترم المشاهد مفسحاً المجال أمامه لاختيارات متنوعة، شرط تقديم المعلومات الصحيحة". ويتهم منسى تلك الأنظمة بأنها تخاف حرية الإعلام، لئلا تنقلب وسائل الإعلام ضدها على حين غرة. ويقول:"فلنأخذ القضية الفلسطينية مثالاً، ولندرس تغطية الإعلام الصهيوني وما قدمه الإعلام العربي. ثمة فارق كبير في كيفية التوجه إلى العالم، وفي هذا الإطار أسجل أن شعوب العالم كانت تبحث عن بطل ما، وكانت القضية الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينينة ياسر عرفات مناسبين، لكن الإعلام العربي كان مقصراً في هذا المجال، على رغم التعاطف العالمي، فما قدمناه كان أقل ويبقى أدنى بكثير من المطلوب". ولكن ماذا بعد الصعود الى الفضاء؟ يجيب منسى: "علينا أن نقدم أنفسنا بصورة ومحتوى متميزين. مشكلة الفضائيات أنها تتوجه فقط إلى العرب، بينما المطلوب أن تتوجه إلى العرب وغير العرب. لم تخلق الفضائيات لغة تواصل مع الآخر غير العربي ولم تعرف الوصول إلى العربي الآخر أيضاً. ثمة برامج جيدة ومسلية، لكن المطلوب من الفضائيات العربية أن تتوجه إلى الرأي العام الأجنبي لتكسب تأييده لقضايانا". ورأى أخيراً أنه لا بد من ذكر تجربة قناة "الجزيرة" الفضائية، "إذ قدمت مضموناً إعلامياً مهماً. وأنا لا أدعو الآخرين إلى تقليده، لكني أدعو الفضائيات إلى تقديم برامج ذات مستوى جيد مماثل، وهي خطت خطوة تحسين واحدة لكننا نشهد تشابهاً في ما تقدمه لغياب الفكر الخلاق، قد يعود هذا الأمر إلى عدم تدريب العاملين أو أن الفضائيات لا تبحث عن الكفاءات فنشعر بأنها لا تستثمر العنصر البشري". ويقول حمدي الكنيسي رئيس الاذاعة المصرية سابقاً ورئيس قناة "المحور" الفضائية الخاصة حالياً: "تجربة القنوات الفضائية العربية جديرة بالاحترام والدراسة على رغم وجود كثير من السلبيات فيها. هذه التجربة لها أكثر من وجه، فبعض القنوات حقق مستوى مرتفعاً من حيث الأداء والوجود وهذا يسعد أي عربي، لقد فتحت هذه القنوات مساحات كبيرة لطرح الآراء ومناقشة القضايا. ولكن يؤخذ على هذه الفضائيات أنه لا يوجد أي تنسيق بينها. الكل يعمل في جزر منعزلة وأصبح مفهومها للمنافسة الصراع وإحداث المعارك، إذ لا بد أن ينتصر طرف على آخر او قناة على اخرى. وأرى أنه لا بد من التنسيق في ما بينها لتبنّي القضايا العربية بشكل قوي. ومطلوب منها تطبيق توصيات مؤتمرات وزراء الاعلام العرب التي تؤكد ضرورة التنسيق بين الاعلام العربي الحكومي والخاص في ظل الظروف الحالية للأمة العربية، وهي ظروف تحتاج الى إعلام قوي قادر على مواجهة التحديات". وأشار الكنيسي الى أن "الفضائيات العربية جرّتها المنافسة بينها الى الاغراق في الترفيه والاثارة على حساب القيم والعادات العربية، وهذا يأتي على حساب الروابط العربية". ولاحظ الكنيسي "ان الفضائيات الخاصة متاحة لها مرونة أكبر في طرح الافكار والمناقشات الجادة لأنها لا تحاصرها السياسات الحكومية ولا الحساسيات بين الدول، لذلك أرى أن المستقبل هو لهذه القنوات الخاصة في ظل المتغيرات العالمية في الاعلام ووسائل الاتصال، لأن القيود التي تفرض على الفضائيات الحكومية تحد من التميز". وعن دور الفضائيات في إحداث تقارب عربي، قال: "لا شك في أن هذه الفضائيات احدثت نوعاً من التقارب لكن التأثير السلبي لهذه الشاشات كان أكبر. فقد عمقت اللهجات المحلية على حساب اللغة العربية الفصحى، وهذا من أخطر الآثار. ما فعلته هذه الفضائيات انها جعلت المواطن العربي يتعرف على طبيعة البلاد العربية الأخرى ويعرف الكثير عن أخيه في البلاد العربية وفي الوقت نفسه وسعت القاعدة الانتشارية المتاحة للفنانين واتاحت لهم الكثير من الفرص". سلاح الأنوثة واجتذاب الجمهور وترى المذيعة بثينة كامل، التي تقدم برنامجاً في قناة "أوربت" الفضائية عنوانه "أرجوك افهمني"، أن الفضائيات العربية ساهمت في ازدياد الترابط العربي وانتشار اللهجات ومتابعة الأخبار المحلية لكل دولة، "ولهذا فإن تعدد المحطات الفضائية كان مهماً في حشد الوعي العربي". وأضافت كامل: "ان الرأي الذي سأقوله ليس تقويماً علمياً، وهو جزئي، فإلى جانب الإيجابيات هناك سلبيات أجدها في برامج المنوعات التي يعتمد بعضها على الرخص والابتذال، ومحاولة بعض المذيعات إظهار سلاح الانوثة لجذب الجمهور، وهذا نوع من التدني. وأرى أنه يجب على القائمين على هذه المحطات احترام المشاهدين وعدم ابتزازهم، فلماذا السكوت عن هذا الهراء الذي اعتبره نوعاً من السخف وإهداراً للمال". ولا تكتمل محاولات تقويم تجربة السنوات العشر التي اتصل خلالها عطاء الفضائيات العربية الا بتلمس آثار ما تقدمه الى الجمهور من خلال تقويم علماء النفس والاجتماع. وطلبت "الوسط" من الدكتورة أنيسة الأمين مرعي استاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية وضع التجربة على ميزان علم النفس فكان ردها: "من المفيد في قراءة هذه التجربة وضعها في اللحظة التاريخية الراهنة على المستويين العربي والعالمي، فعلى المستوى العالمي ظهرت مسألة التطور العلمي والتقني الهائل الذي أدى إلى ما نسميه عصر الإتصالات، أو "القرية الكونية"، فتطورت وظائف الربط والإتصالات كثيراً بفعل هذا التطور، واستفادت الفضائيات العربية من هذا الأمر، وثمة لحظة عربية دفعت إلى التساؤل عن أهمية الفضائيات وفاعليتها، ومن هنا يُطرح السؤال عن نوعية هذا الإتصال وفي الوقت نفسه عن نوعية المتلقي. وقالت الدكتورة مرعي ان متابعة الفضائيات العربية تقود الى تقسيم موضوعات برامجها إلى ثلاث فئات: - الموضوع السياسي، وينحصر بمسألتين، هما قضايا النظم السياسية والقضية الفلسطينية. - الموضوع الإجتماعي: معيشة الناس وعلاقاتهم في ما بينهم، وعلاقتهم مع السلطة. -الموضوع الثقافي الذي يشمل أيضاً الترفيه والمعلومات والتوثيق وغيرها. وتضيف: إذا تابعنا الفضائيات العربية، نرى أنها تقدم بعد منتصف الليل جدلاً دينياً أو نقاشاً حول القضية الفلسطينية، أو برامج الترفيه والألعاب خلال ذروة الإقبال بين السادسة والعاشرة مساء، وهنا يطرح السؤال الإشكالي نفسه، هل تقدم وسيلة الإتصال نسقاً ثقافياً وسياسياً، أم أنها تعكس ثقافة من تتوجه إليه؟ نرى أن الفضائيات التي تتوجه إلى شرائح منتشرة في العالم كله مشغولة بالقضايا الدينية والقضية الفلسطينية من جهة، وقضايا الترفيه والألعاب من جهة أخرى، وأريد التوقف عند هاتين المسألتين لأنهما تشغلان السلطة والجمهور معاً. من المؤكد أننا أصبحنا أكثر علماً بما يجرى في فلسطين، إنما في لحظة تاريخية هي لحظة اليأس العربي أو لنقل لحظة اللامبالاة المترافقة مع إدراك واعٍ أو غير واعٍ من قبل المشاهد بعجز السلطات العربية عن دعم القضية الفلسطينية، وبعجزها عن حل الأزمات الإقتصادية المتنامية، فيبقى من المضمون الإعلامي "من سيربح المليون؟" أو هذا النوع من الألعاب التي أرى أنها من خلال اللهو والألعاب وحركات المقدمين والمقدمات إنما ترمي حجاباً كثيفاً حول الموضوعات الإعلامية الثلاثة التي ذكرتها، والتي أعيدت صياغتها على شكل أسئلة أخرى: إلى أي نظام سياسي ينتمي المواطن العربي، وهل يعرف أي ثقافة يريد؟ ثقافة الحداثة أم التحجر أم التقليد أم ماذا؟ هل هو مواطن؟ فرد؟ عضو في جماعة؟ مدني أم قروي؟ من يتزوج وكيف، وفي أي بيت يسكن، وماذا يقرأ وماذا يشاهد؟ هذه الأسئلة غائبة، على رغم أنها تشكل جوهر الإنسان، وأظن أن الفضائيات العربية هي الناطقة باسم ما يُسمى ثقافة الإستهلاك: إستهلاك الوقت، واستهلاك الروح والجسد والطاقة البشرية الخلاقة. كأنني أرى مقولة "الشعب العربي السعيد" الذي يقوم بما عليه القيام به، ويعود إلى حيث يعيش ويسترخي في لحظة متعة تغيبه كلياً كذات متطلبة وناطقة، لديها أسئلة وطموحات نحو الغد، بهذا المعنى نفهم التنميط الموجود في الفضائيات العربية، إذ أننا على رغم تغيير شعار المحطة نرى المسلسلات والشخصيات نفسها، ونرى البرامج ذاتها، وإذا اعتقدنا بأن هناك اختلافاً في ثياب المقدمين والمقدمات، فنحن نعرف أن هذا التبديل للثياب والماكياج إنما هو من أفكار شركات التسويق وليس دليل اختلاف بين الشخصيات والأهداف. وتخلص عالمة النفس اللبنانية الى "أن الفضائيات انزلقت، تحت ضغط الوصل والربط والإتصال، إلى مراعاة ثقافة الريفي الأقل اطلاعاً الذي لا يزال يعيش في خيمة بدوية، المكتفي بالقليل من الماء والمدارس والجامعات، والطالب للكثير من المتعة الوهمية الخادعة التي تقدمها له الصورة. أما في ما يتعلق بالبحث عن الكفاءة البشرية، فإن المسألة معقدة، إذا سألنا معظم المسؤولين عن الفضائيات عن الهدف الذي تبتغيه فسيجيب: الإستثمار المالي. وليس عيباً أن يقول ذلك، لكن المشكلة الرئيسية تكمن في ذلك التواطؤ الحاصل بين الجهة المُرسلة والجمهور، ونقع هنا في حلقة فارغة، فإذا أرادت الوسيلة الإعلامية الوصول إلى الجمهور فعليها العمل وفق الآليات المجتمعية والنفسية الموجودة والمتداولة لدى المتلقين، وإذا تابعنا الفرق بين الفضائيات العربية وزميلاتها العالمية نعرف أن الفرق يتعلق تحديداً بالمسألة الإجتماعية، فالفضائيات الغربية تتوجه تحديداً إلى مواطن تحميه القوانين، وينطق ويتكلم في ظل نظام ديموقراطي، وله الحرية في ممارسة فرديته، فيصير في هذا الإطار للجدل وللترفيه معنى آخر". "أما متابعة فضائياتنا العربية، فالنبيه وحده يستطيع أن يعرف من هو كمشاهد، وأين هي قضايانا. إن عدم تحديد هذه المسائل يسمح بقيام كتلتين من التدفق الإعلامي، كتلة التدفق السياسي والديني، وكتلة اللهو، وبالتالي فإن المشاهد العربي غائب كمواطن، وهو يدرك أن الكتلة الأولى للإستهلاك، فيتوجه بشكل آلي إلى اللهو الذي يجعلنا جميعاً أطفالاً، ولكنهم أطفال أغبياء. من هنا أستطيع القول في قراءة تجربة الفضائيات العربية، بشكل عام، لقد سقطت اللغة وبقيت المتعة، وذلك نظراً إلى عجز من ينتج اللغة الإعلامية والكلام، فبقيت المتعة، وصفتها الأساسية أنها استهلاكية ولا تشبع، والمشاهد العربي لا يدرك أنه لا يتمتع لكنه يُشاهد فقط، وينتظر متعته طويلاً ولكنها في الصورة وليست بين يديه، لذا أقول اننا في الظاهر شعب عربي سعيد لكننا - ضمناً - شعب عربي تعيس". ويقول الدكتور زهير حطب أستاذ علم الإجتماع في الجامعة اللبنانية: "كان من المفترض أن تلعب الفضائيات العربية دور الوسيط وأداة انفتاح على العالم، لكنها نقلتنا كما نحن فضائياً، فنقلت مواقفنا المحافظة، ونمط معيشتنا وأفكارنا كما هي دون أي تطوير أو تكييف مع ما هو سائد في العالم الحديث، فيما ينبغي ان تكون مهمة الفضائيات المقاربة بين الشعوب من حيث المظهر والتقنيات". ويتابع: "الموضوعات والقضايا التي تشكل مادة الإتصال بالخارج هي أيضاً مادة أولية غير معدة جيداً. وأتهم الفضائيات بأنها لا تعد جيداً ما تقدمه، باستثناء البرامج الفنية والترفيهية التي تشوه من خلالها الواقع الشعبي بمحاولة إظهاره بمظهر حديث، كأن تبث أغنية كلامها بدوي وأنغامها جاز حديث! أما في ما يتعلق بالموضوعات السياسية والعالمية، فلا شك في أن الفضائيات أسهمت في تشكيل مظلة ورأي عام عربي أوسع نطاقاً من السابق. وقدمت، وإن بشكل ضعيف، صورة عن واقعنا ومشكلاتنا الى الرأي العام العالمي لم تُجَارِها فيها وكالات الأنباء العالمية التي كانت تعمل بشكل إنتقائي. إذاً التغطية السياسية التي قدمتها الفضائيات هي التي تخدم القضية العربية، ولكنني أعتقد بأن ما يخدم قضيتنا اليوم هو أيضاً الجانب الثقافي والإجتماعي، وفي هذا المجال سجلت الفضائيات ضعفاً شديداً، وعجزت بالتالي عن عكس صورة الواقع الثقافي العربي. وإذا أردنا إعادة تكوين صورة العربي وقضيته على المستوى العالمي وفي المجتمعات المعاصرة لا بد أن نبرز الجوانب الحضارية غير السياسية أو الفنية أو المادية في حياتنا، وأهمها إنتاجنا الثقافي وفكرنا الإجتماعي، وهما الخاصتان الأقل تغطية أو حضوراً في الإعلام العربي بشكل عام". وخلص الى أن "الفضائيات العربية تعيد إنتاج الوجه المنمط للوجود العربي والإسهام العربي في العالم المعاصر، هذا الوجه الذي أنتجته وسائل الإعلام الغربية، والغرب كله يريد إظهارنا بمظهر الهمجيين والإرهابيين وأصحاب الفكر التقليدي القديم". ويقول الدكتور سمير الشيخ علي أستاذ الاجتماع في جامعة دمشق: "بكل أسف لا نستطيع ان نوهم القارئ بتقديم بيانات احصائية دقيقة، لأن المحطات الفضائية العربية الحكومية والخاصة لم تعط البحث الاعلامي والاجتماعي والدراسات المسحية لمشاهدي برامجها أهمية تذكر في انفاقها السنوي او خططها البرامجية. وهي لا تزال تستورد البرامج، ولم تظهر الى الآن شركة اعلامية عربية لإنتاج هذه البرامج، على رغم أهمية الاستثمار في هذا المجال. وباستثناء الدراما والاعلان التجاري، فإن معظم البرامج العلمية والاخبارية والثقافية وحتى برامج الأطفال والرسوم المتحركة مستوردة، وقد لا تلائم التكوين النفسي للمشاهد العربي، بل قد تؤثر على هذا التكوين وهويته الثقافية". وأشار الى ان قناة "الجزيرة" استقطبت نحو 65 في المئة من المشاهدين السوريين، ممن تتوافر لهم فرصة الاستقبال، تلتها محطة "ام بي سي" 55 في المئة، ثم تنافست على المرتبة الثالثة كل من قناتي دبي وأبوظبي بنسبة 45 في المئة لكل منها، وجاءت القناة الفضائية المصرية في المرتبة الرابعة لتحتل 35 في المئة. أما المحطات الأخرى العربية والأجنبية فراوحت نسبة مشاهديها بين 5 و15 في المئة. هذه التقديرات ليست دقيقة، وهي مأخوذة من عينة عشوائية تجريبية لقطاع من مشاهدي البث الفضائي، وهذه النسب لا تعني فترة المشاهدة وانما الافضليات بالنسبة الى البالغين وغالبيتهم من الذكور. ومن الملاحظ ان 20 في المئة من الوقت يذهب في البحث عن أفضليات المشاهدة، وقد تتعارض رغبات أفراد الأسرة، بين البالغين والأطفال، او بين الذكور والاناث، او بين الشرائح العمرية أحياناً. فقد احتلت برامج الدراما الأفضلية الأولى عند النساء، وبرامج المنوعات والرياضة والتسلية وأفلام العنف أفضلية لدى المراهقين، بينما تركزت أفضليات الذكور من الكبار 29 سنة وما فوق على البرامج الاخبارية والسياسية والثقافية. وحظيت برامج قناة "الجزيرة" التالية: "الاتجاه المعاكس" و"الرأي والرأي الآخر" و"مراسلون بلا حدود" و"الشريعة والحياة" باهتمام أكبر لدى الذكور البالغين. بينما أخذ برنامج "من سيربح المليون؟" بأسلوبه المثير المرتبة الأولى بين مختلف فئات الأعمار من الجنسين. وبالنسبة الى الأطفال حظيت قناة البحرين المخصصة للرسوم المتحركة بالمرتبة الأولى. وأشار الدكتور الشيخ الى ان الفضائيات العربية ساهمت في تزجية وقت الفراغ لدى المشاهد السوري لا سيما مع استمرار البث نهاراً، ولانخفاض الدخل الفردي، فإن التمتع بالنزهات والسياحة والاصطياف وارتياد الأندية لم يعد متاحاً لشريحة واسعة تشمل أكثر من 85 في المئة من مشاهدي البرامج الفضائية. لقد تركت هذه الوسيلة آثاراً متباينة على الفرد والأسرة والمدرسة والمجتمع، فقد روّجت لنمط الحياة الاستهلاكي الأميركي والتواكل والميل الى البحث عن الثراء السريع. وهذا سبب جاذبية مسابقة ربح المليون. وساهم الترويج لنمط الحياة الأميركية في تفكيك الأسرة، واختلاط الأدوار. ولفت الى انه لم يعد للأسرة او المدرسة دور مهم في التنشئة الاجتماعية والتربية، في ظل وجود التلفزيون والبث المتعدد الخيارات والثقافات، وأصبح الآباء والأمهات تابعين بشكل سلبي لرغبات الأبناء، لأن جيل التلفزيون والستالايت هو "جيل خارج السيطرة". ويختم عالم الاجتماع السوري حديثه بالقول: "بقي ان نقول ان الاعلام الفضائي أثر سلباً على القراءة والاقبال على الكتابة كوسيلة أساسية للتثقيف والمعرفة بدل ان يحدث العكس! وهذه قضية تحتاج الى بحث مستقل آخر"