أدت العملية الانتحارية في تل ابيب الى ضغوط اميركية وأوروبية هائلة على السلطة الوطنية الفلسطينية، ترافقت مع حصول تبدل لمصلحة اسرائيل لدى الرأي العام العالمي. وبلغت الضغوط أوجها خلال الاتصال الذي اجراه وزير الخارجية الاميركي كولين باول بالرئيس ياسر عرفات طالباً منه اعادة قادة حركتي حماس والجهاد الاسلامي الى السجن لاثبات جدية نواياه. وانساقت اوروبا الى حملة الضغوط معتبرة ان عملية تل ابيب خلقت "وضعية جديدة"، وراحت تقوم بدور الولاياتالمتحدة في مسايرة اسرائيل والضغط على الفلسطينيين. وحتى فرنسا المعروفة بتعاطفها مع الموقف العربي عموماً، ذهبت الى حد القول ان "موقف عرفات مبهم وتصرفاته غير مفهومة" على رغم انها اكدت انه "ليس من مصلحة احد زعزعة سلطته". وافق عرفات على وقف النار مضطراً بعدما كسبت اسرائيل الورقة الاعلامية باعلانها وقف اطلاق نار من جانب واحد. وتردد ان موافقته جاءت بعد ضمانات بهذا المعنى تلقاها من قادة حماس والجهاد وغيرهما، على رغم اللغط الذي دار في هذا الخصوص. وبغض النظر عن التشكيك الاسرائيلي في اعلان عرفات ووصفه بأنه موقف تكتيكي، الا ان عوامل متعددة يمكن ان تلعب دوراً في تثبيت هذا الهدوء او اعادة تفجير الوضع من دون ان يكون معروفاً من سيدفع الثمن. ففي الجانب الفلسطيني، ربما كانت حركتا حماس والجهاد الاسلامي مستعدتين لمسايرة قرار عرفات اذا كان ذلك سيجنب الساحة الفلسطينية الضغوط الدولية وضربة عسكرية اسرائيلية قاسية يقال ان شارون وضع خطتها التي لا تنتظر سوى اشارة التنفيذ تحت اي ذريعة، لكنهما قد تعيدان النظر في موقفهما اذا عنى وقف اطلاق النار عملياً وقف الانتفاضة بكل بساطة. كما ان هناك داخل السلطة الفلسطينية، وفي صفوف قادة الانتفاضة العملانيين، من ليس مستعداً لتقديم هذا التنازل الكبير من دون اي ثمن مؤكد تدفعه اسرائيل. فتطبيق توصيات لجنة ميتشل وفق الجدول الزمني الذي تضمنته يتطلب فترة قد تمتد الى ستة اشهر يكون خلالها المطلوب من الفلسطينيين اكبر بكثير مما هو مطلوب الى المرحلة التالية، اي وقف الاستيطان والعودة الى مفاوضات السلام. وبالتأكيد فان وصول مدير وكالة الاستخبارات الاميركية جورج تينيت الى المنطقة يهدف الى وضع قائمة بالخطوات المطلوبة من القيادة الفلسطينية خلال "فترة الاختبار" واجراءات اعادة الثقة ثقة من بمن؟. اما في الجانب الاسرائيلي، فهناك آرييل شارون نفسه الذي تتعارض مفاهيمه السياسية والعسكرية وتمسكه بمبدأ القوة مع اي نوع من انواع السلام المعروفة، والذي يبدو ان حملته الشخصية على عرفات ووصفه اياه بأنه "قاتل وارهابي" استهدفت قطع الطريق على احتمال لمعاودة المفاوضات معه على الفور. وهناك ايضاً القادة العسكريون المتشددون في الجيش الاسرائيلي الذين يعتبرون الفلسطينيين، اياً كان تصنيفهم السياسي بين معتدل ومتشدد، اعداء يفترض تصفيتهم، مثلما حصل بالنسبة الى الكمين الذي نصبه الجيش لفريق المفاوضين الفلسطينيين وقصف منزل جبريل الرجوب. كما يلعب المستوطنون وغالبيتهم العظمى من المتشددين اليمينيين دوراً رئيسياً في التحريض على السلطة الفلسطينية خصوصاً ان ممثليهم يشكلون عنصراً مهماً في الائتلاف الذي تقوم عليه سلطة شارون. كان الوضع بين الفلسطينيين واسرائيل قبل عملية تل ابيب هو من يصرخ من الألم اولاً، وصار الآن من يستطيع اثبات انه لا يسعى الى تفجير الوضع مجدداً، على رغم ان الاستيطان لم يتوقف والفلسطينيون لا يزالون يسقطون يومياً عشرون قتيلاً و480 جريحاً منذ اعلن شارون انه اوقف اطلاق النار وعمليات التوغل في المناطق الفلسطينية مستمرة. السيناريوهات المحتملة كثيرة، وحلم شارون ب "كسر" منظمة التحرير في 1982 ربما لم ينته بعد. موقف الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي لا غموض فيه. "لا يوجد شيء اسمه اطلاق نار، هناك مقاومة من اجل كنس الاحتلال. وهذه المقاومة تستخدم أساليبها لتحرير فلسطين، ولن تتوقف إذا لم تتحرر فلسطين". "الوسط" حاورت الرنتيسي المقيم في غزة. * هل ستتجاوب "حماس" مع وقف اطلاق النار؟ - بكل بساطة، حماس لها استراتيجية ثابتة تقول انه طالما هناك احتلال لفلسطين هناك مقاومة، ولن تتوقف هذه المقاومة الا بانهاء الاحتلال. هذه هي الاستراتيجية السياسية الثابتة لحركتنا والتي لا يمكن ان تتغير طالما بقي الاحتلال. وكما قلت، لا يوجد شيء اسمه وقف اطلاق النار. نحن لسنا جيشاً. هناك احتلال وهناك مقاومة. ووقف المقاومة في ظل وجود الاحتلال يعني تكريسه والقبول به. وحماس لا يمكن ان تقبل. نحن ندرك الضغوط الهائلة التي تمارس في الاتجاه الخاطئ لأنها تتركز على المعتدى عليه، اي السلطة الفلسطينية. وكان الاولى بهذه الضغوط ان توجه نحو المعتدي ليقال له كفى احتلالاً. الاحتلال لا ينتهي سوى بالمقاومة وهذا أمر مشروع تكفله الشرائع الارضية والسماوية على السواء. * لكن السلطة الفلسطينية وافقت على وقف اطلاق النار، فلماذا لا تلتزمون به من منطلق المصلحة العامة؟ - اولاً اسمحي لي ان اقول، ان علاقتنا مع السلطة الفلسطينية طيبة، ولا توجد مشاكل بيننا. وحماس ليست الفصيل الوحيد الذي اعلن عن استمرار المقاومة طالما هناك احتلال. وليس هناك تناقض مع ما ارتأته السلطة نتيجة الضغوط التي تمارس عليها، لأن السلطة اصلاً لا تقبل بالاحتلال. فالاحتلال هو ابشع انواع العدوان، لذلك طالما هناك احتلال والجانب الصهيوني لا يلتزم بوقف عدوانه على الشعب الفلسطيني، يجب ان تبقى المقاومة. وهنا طبعاً لا يوجد اي تناقض مع السلطة. نحن نقول، وكل الفصائل تقول معنا، ان استمرار الاحتلال يعني الاصرار الصهيوني على العدوان وبالتالي كيف يمكن ان يقابل هذا الاصرار الصهيوني بوقف المقاومة. ومن هنا نرى عدم وجود تناقض. فالسلطة تطالب العدو الصهيوني بالانسحاب ونحن نقول بأن هذا الانسحاب هو الحل الوحيد لوقف الانتفاضة ومن دون ذلك ستستمر. * ألم يطلب منكم عرفات مباشرة وقف اطلاق النار؟ - لا. السلطة اجتمعت مع اخواننا في الضفة وبينت لهم ملابسات ما جرى، ولم يكن هناك اي طلب بوقف المقاومة ولا الانتفاضة على الاطلاق. * ولكن كان هناك طلب بوقف اطلاق النار؟ - لا, لا. قلت لك لا يوجد شيء اسمه اطلاق نار. هذه مقاومة ولا يوجد اي طلب لوقف المقاومة وقلت اننا غير مختلفين مع السلطة الفلسطينية. من هنا جاء بيان للقوى الفلسطينية ولجنة المتابعة العليا القوى الوطنية والاسلامية منسجماً مع الواقع. لغة القوة * إذا لم يكن هناك وقف لاطلاق النار فكيف يمكن التوصل الى اي نوع من التفاهم؟ - نحن اصحاب تجربة سابقة. عندما حاولنا وقف المقاومة بعد عام 1996، اثناء العمليات الاستشهادية كان اسحق رابين يقول انه سيقوم باعادة الانتشار، وسيفوت الفرصة على الاستشهاديين. العدو الصهيوني لا يفهم الا لغة القوة. وعندما تم بعد قمة شرم الشيخ التصدي للمقاومة، وبالفعل تم تحجيمها ووضع العراقيل في وجهها، ماذا فعل العدو الصهيوني؟ لم يتنكر فقط لكافة حقوق الشعب الفلسطيني، بل بدأ يضع المسجد الاقصى على طاولة المفاوضات للمساومة وينكر حق شعبنا في بسط سيادته على المسجد الاقصى. وعندما خفت المقاومة زاد تبجح العدو وتنكره لحقوقنا. فتجربتنا علمتنا ان اعطاء العدو مهلة لالتقاط الانفاس يعني اعطاءه فرصة للمزيد من التنكر لحقوق الفلسطينيين المشروعة. والآن انظري ماذا الذي يحدث، شارون يصبح حمامة سلام. لا يريد ان يرد. نعم هو يفسرها امام العالم بأنه ضبط نفس، وله اهداف من ذلك. لكن صدقيني انه شعر بخوف وذعر عندما ادرك تماماً ان المعادلة واضحة: اذا ضربتم بطائرات اف - 16 نضرب بالاستشهاديين. عندما ادرك هذه المعادلة بدأ يتراجع، وتراجعه واضح. الموقف الحالي لا ينسجم مع عقلية شارون الذي انعدمت قدرته على الثبات امام المقاومة. وهذا يفسر ما جرى في جنوبلبنان، وعلينا ان نتعلم من الدروس ان المقاومة هي الحل الصحيح لاجبار العدو الصهيوني على الرضوخ لحقوق الشعب الفلسطيني. معادلة التاريخ * قلت انكم ستضربون بالاستشهاديين، واستمرار المقاومة يعني سقوط المزيد من الشهداء. فإلى اي مدى سيتحمل الشعب الفلسطيني هذا الوضع بعدما عزت لقمة العيش؟ - الشعب الفلسطيني عاش طوال سنوات الاحتلال الوضع نفسه، وتحمل وقاوم من اجل وطنه وأرضه. اننا نعيش تحت الاحتلال، والاحتلال اسوأ انواع الذل. وحياة الذل لا يمكن ان يتحملها احد. نحن اصحاب حق. صحيح اننا ضعفاء عسكرياً امام عدو مدجج، لكن هذه هي معادلة التاريخ، الضعفاء الذين يقعون تحت الاحتلال يقاومون ويدفعون ثمناً باهظاً ثم ينتصرون. ونحن سنستمر في المقاومة، والمقاومة ستتصاعد وستبتكر وسائل جديدة. فابتكار المادة الجديدة التي استعملت في العملية الاخيرة ادى الى قتل عشرين شخصاً. وبدون شك فان استمرار المقاومة سيؤدي الى المزيد من الابتكارات الموجعة للعدو الصهيوني. يجب ان لا يعتقدوا بأن الاحتلال درب مفروش بالورود وانما بالقنابل. ولن تكون المقاومة بلا ثمن، بل ستدفع ثمناً باهظاً في طريقها، ولكنها الطريق الوحيدة التي ستصل بنا الى حقوقنا المشروعة. وهذه المقاومة ستوقظ امتنا العربية من سباتها. واذا حدثت هذه اليقظة ستؤدي الى خطر داهم على العدو الذي يسخر من أمة عددها مليار وثلاثمئة مليون مسلم ويغتصب ارضها. نحن دفعنا ثمناً ليس فقط من اجل قتل العدو وايلامه انما ايضاً من اجل ايقاظ الامة العربية والاسلامية لتقف على اقدامها من جديد وتدافع عن ارضها المغتصبة وكرامتها وحضارتها. ان مقاومة الشعوب لا تنتهي في اشهر. فالاتحاد السوفياتي تكون وانهار في سبعين سنة ويعتبر انه انهار وهو في سن الطفولة. ونحن اليوم لا طريق امامنا سوى استمرار المقاومة، والا فسنصحو بعد عشرين سنة ونقول لنبدأ من جديد. * العمليات الانتحارية التي يقوم بها... - انها عمليات استشهادية وليست انتحارية. * هناك علماء ورجال دين مسلمون أفتوا بتحريم العمليات الاستشهادية، فما موقفكم من هذه الفتاوى؟ - اذا جئنا للشرع فهناك فتوى لمفتي مصر وللشيخ القرضاوي وفتوى ل 25 عالماً من خيرة علماء الاردن وفتاوى من الكويت والخليج بأن هذه العمليات الاستشهادية حلال. اما الشهداء فيها فهم خيرة الشهداء. أغنياء وفقراء * دعنا نسألك بصراحة، أليس هناك استغلال لوضعية هؤلاء الشباب الذين يقومون بهذه العمليات. منفذو العمليات جميعهم من عائلات تعيش حياة فقر مدقع؟ - على العكس تماماً. نسبة الاغنياء اكثر من الفقراء. فيحيى عياش كان مهندساً ولم يكن فقيراً. هذا الكلام غير صحيح، ويكفي القول ان ما لا يقل عن خمسة من قيادات حماس استشهد ابناؤهم، ولا يوجد بينهم واحد فقير. وقد شاهد الجميع على شاشة التلفزة كيف يقرأون البيان قبل العملية مباشرة بكل ثبات وجرأة وبدون تلعثم وكأنهم يذهبون الى الزفة. * كرجل دين مؤمن. الا يضايقك ان تؤدي هذه العمليات الى قتل مدنيين. الا يفترض ان يكون الهدف في الاساس جنود الاحتلال؟ - اولاً أود ان اقول انه عندما يعود الجندي من ثكنته ويلبس لباسه المدني ويخرج الى المرقص، هل يصبح مدنياً؟ ان الذين قتلوا او أصيبوا في العملية الاخيرة جميعهم من الشباب، وجميع الشباب عند العدو الصهيوني في الجندية، ولا احد يشذ عن القاعدة. ناهيك عن ان من لم يدخل الجندية جاء من بريطانيا وأميركا وهولندا ومن هنا وهناك ليقتلعني من وطني، فهو ليس بريئاً. نحن نقول ان الابرياء هم الاطفال وهؤلاء لا يستهدفون. فنحن لا نأتي الى مدرسة اطفال كما فعل الصهاينة عندما هاجموا مدرسة للاطفال الفلسطينيين. لقد قتلوا منا 137 طفلاً في الانتفاضة الاخيرة. نحن لا نستهدف اطفالهم على الاطلاق ولا نحلل ذلك، ونعتبره حراماً. اننا نستهدف كل شاب وشابة وكل صهيوني حمل السلاح ضد ابناء شعبنا وقتل. اليوم اسرائيل تلاحق بعض بقايا النازيين الذين بلغوا الثمانين من العمر ولا تعتبرهم ابرياء، فكيف سأعتبر بريئاً من قتلني في دير ياسين وأصبح اليوم عجوزاً، وبالتالي فإن الصهاينة جميعاً، حتى وان لبسوا زياً مدنياً، مغتصبون للوطن ويجب ان يخرجوا منه. ومن يريد حقن دمه عليه ان يخرج من وطننا. حزب الله * المعلومات الاولى التي تخرج للعالم عن تنفيذ عملية تقومون بها تكون من تلفزيون "حزب الله" في لبنان، فما هي طبيعة علاقتكم مع "حزب الله"؟ - نحن نحترم جميع القوى العاملة ضد العدو الصهيوني و "حزب الله" على رأس هذه القوى، لذلك نكن له تقديراً واحتراماً كبيرين، ونتمنى ان نتمكن من اقامة علاقات تعاون مباشر. * "حزب الله" يعلن انه سيحارب من اجل تحرير القدس، فكيف يمكن ان يتم ذلك من دون تعاون معكم؟ - كنت اتمنى، ويشرفنا، ان يكون هناك تعاون ميداني مع "حزب الله". لكن السبب في عدم حصول ذلك ليس رفضاً من "حماس" او "حزب الله"، انما الحدود التي تحول بيننا. "حزب الله" يقاوم الاحتلال و "حماس" تقاوم الاحتلال، وهذا عامل مشترك يجمعنا، ولا بأس ان نتعاون، لكن هناك اسباباً ميدانية تحول دون ذلك، اهمها الحدود. * لكن سفينة السلاح التي ضبطتها اسرائيل بينما كانت في طريقها الى المناطق الفلسطينية أليست شكلاً من اشكال التعاون؟ - صحيح. لكن من ارسل السلاح ليس "حزب الله". على اي حال نتمنى ان يصلنا السلاح فنحن بحاجة اليه، لأننا في معركة ونتمنى على اخواننا ان يمدونا بالسلاح بأية وسيلة. فمهما ضبط منها لا بد ان يصل قسم، وهذا سيساعدنا.
