"يتعين على الغرب عدم التخلي عن نصره. وهذا يعني استكمال تصفية الحسابات مع ميراث الحرب الباردة في الشرق الاوسط". هذه كانت الخلاصة التي خرج بها بول مايكل ويبي، الباحث في "مؤسسة الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة"، في دراسة اعدها قبل احداث 11 ايلول سبتمبر الاميركية الدامية. وبعد هذه الاحداث مباشرة، كان ويبي يستكمل هذه الخلاصة بالمسارعة الى الاعلان بأنه "من المعقول الافتراض بان الامر الواقع الجديد في الشرق الاوسط انتهى. كما من غير الخطأ الاعتقاد بانه سيكون هناك نظام اقليمي جديد مقترح في المنطقة. انها مرحلة خطرة للغاية". هنا يجب الانتباه الى نقطة مهمة: الفارق الشاسع بين الخلاصة والاعلان. فالاولى كانت تعني فقط تصفية الحسابات مع كل القوى العربية في الشرق الاوسط التي تعاطت او تعاونت او تحالفت مع الاتحاد السوفياتي أبان الحرب الباردة. وهذا يشمل، من ضمن ما يشمل، ليبيا- القذافي التي وضعت في قفص حقيقي في التسعينات، وجمهورية اليمن الجنوبية الماركسية التي ازيلت من الخارطة، والعراق، وربما في النهاية سورية. اما الاعلان فانه يدعو الى توسيع دائرة تصفية الحسابات ليشمل كل بلدان الشرق الاوسط بلا استثناء: الحلفاء كما الخصوم، والاصدقاء كما الاعداء. هل تلقى هذه الدعوات آذانا صاغية لدى صانعي القرار في الولاياتالمتحدة؟ فلننتظر قليلا لنر. فأميركا الشرق أوسطية بعد 11 ايلول سبتمبر لن تشبه أبدا ما كانته قبل هذا التاريخ. إذ ان صدمة العمليات الانتحارية حّولتها بين ليلة وضحاها من قوة عظمى تعمل على الحفاظ على الامر الواقع والاستقرار في هذه المنطقة النفطية - الاستراتيجية المهمة، الى قوة عظمى "ثورية مراجعة"، أي تسعى لتغيير هذا الامر الواقع. ولا يغيّر من حجم هذا الانقلاب الاستراتيجي حقيقة ان اميركا ستخلف اميركا في هذه اللعبة، وان النظام الاقليمي الجديد الذي سيطبخ للشرق الاوسط بعد انتهاء الحرب العالمية الحالية ضد الارهاب، لن يكون البتة أقل تطرفا في اميركيته من سابقه الذي ورثته الولاياتالمتحدة من الاستعمارين البريطاني والفرنسي في اوائل القرن العشرين، والذي يشارف على الاحتضار الان. والواقع ان عملية المراجعة الاميركية بدأت بالفعل في نهايات العام 2001، ويتوقع لها ان تبلغ ذروتها في خلال العام الجديد 2002. ونقطة البداية كانت افغانستان، حيث حققت الحرب الجوية الاميركية نصرا سريعا وكاسحا فاجأ حتى المحللين الاميركيين. فقد تم القضاء خلال شهر واحد على نظام "طالبان" الذي دعم "قاعدة" اسامة بن لادن، وعقد مؤتمر سلام أفغاني على جناح السرعة في بون ولد في احضانه تحالف موقت جديد لتقاسم السلطة في كابول. وسيكون من المهم للغاية معرفة شكل النظام البديل الذي ستقيمه واشنطن في افغانستان، لان ذلك قد يكون كشّافا يلقي الاضواء على طبيعة التوجهات الاميركية "الانقلابية" في الشرق الاوسط. والخيارات الاميركية في هذا السياق هي الاتية: - العمل على إعادة الاعتبار بالتدريج للدولة - الامة الافغانية، ومساعدتها على فرض سلطتها المركزية التوحيدية على كل عناصر "الامة" الافغانية الاثنية والقبلية والطائفية. - لامركزية السلطة استنادا الى صيغة فيدرالية فضفاضة، اي عمليا كونفديرالية ضعيفة. ويقول ريتشارد هيرير ديكيجيان، بروفسور العلوم السياسية في جامعة كارولاينا الجنوبية ومؤلف كتاب "الاسلام في الثورة"، ان هذه الصيغة الاخيرة قد تكون الامثل لافغانستان، خصوصا انها اثبتت نجاحها في مناطق اخرى. ففي سويسرا، وبعد قرون طويلة من الاقتتال الداخلي، وافقت المجموعات الطائفية - اللغوية على العيش في اطار دولة كونفديرالية ترسم حدود كانتوناتها ثقافة كل مجموعة من هذه المجموعات. وفي اسبانيا تم نقل السلطة المركزية الى الحكومات المحلية في اواخر السبعينات كوسيلة لاجهاض انفصالية الباسكيين والكاتالانيين. وهو نموذج حذت حذوه حتى بريطانيا في التسعينات حين منحت الاسكتلنديين والويلزيين صلاحيات حكم ذاتي واسع. - واخيرا هناك خيار تقسيم أفغانستان الى اربع أو حتى ست دول مستقلة، على غرار ما حدث ليوغوسلافيا. وهو خيار تدعمه بقوة باكستان ويلقى بعض الهوى لدى صقور وزارة الدفاع الاميركية. اللوبي الاسرائيلي والصهيوني الاميركي، بدوره، يميل بقوة الى هذا الخيار الاخير. وهو بدأ ينشط على نحو ملحوظ في الاونة الاخيرة للترويج لتطبيقه، ليس فقط في أفغانستان بل في كل المشرق العربي. ففي دراسة اخرى لمؤسسة الدراسات الاستراتيجية المتقدمة نفسها، والتي تعتبر الناطقة بأسم مجموعات الضغط هذه، تم التشديد على ان مشاريع الدول- الأمم العربية فشلت، وان الحل الوحيد يكمن في اعادة رسم الخرائط وبناء "أمم" جديدة على أسس قبلية وعشائرية وعائلية. وهنا يجب الالتفات الى نقطة مهمة: آرييل شارون لا يفعل غير ذلك الان في الضفة الغربية وغزة. فهو لا يدعو الى تقويض السلطة الوطنية الفلسطينية ونسف اتفاقات اوسلو فحسب، بل يرى ايضا ان البديل لهذه السلطة كما اشارت "هآرتس" أخيراً هو العائلات والبطون والافخاذ القبلية والقادة الأمنيون الفلسطينيون المحليون. واذا ما نجح شارون في مسعاه هذا، فلن يطول الوقت قبل نقل هذه الرؤى الى العراق حيث القبلية والعشائرية لها مواقع متجذرة في مجتمعه، تمهيدا لما تصفه مؤسسة الدراسات ب"تحالفات قبلية شرق اوسطية عابرة للحدود، يكون للهاشميين دور أساسي فيها. بالطبع، ما تتمناه اسرائيل ليس هو نفسه بالضرورة ما تريده الولاياتالمتحدة او ما تراه في مصلحتها. وحتى الان لم توح واشنطن بانها تميل الى هذا المشروع الخطر، الذي يمكن ان يقلب المنطقة العربية برمتها رأسا على عقب. ما تريده اميركا، علنا على الاقل، يتحدد في المفاصل الرئيسة الاتية: 1- الاولوية القصوى كانت وستبقى حتى فترة طويلة ل"تجفيف مستنقعات الارهاب في الشرق الاوسط". وهذا يعني انهاء كل ظواهر وهيئات ومؤسسات الاسلام الاصولي، وفرض الرقابة الشديدة على نشاطاتها ومؤسساتها. وليس الموقف من منظمات "حماس" و"الجهاد" و "حزب الله" سوى الترجمة العملية لهذا التوجه. 2- العمل على تغيير "النظام الاقليمي الايديولوجي" اذا جاز التعبير في المنطقة العربية. اذ ان الولاياتالمتحدة اكتشفت ان بعض مناهج التعليم والاعلام خصوصا في باكستان وبعض الدول العربية كانت مصنعا لما يسميه الاميركيون الان "عملية تفقيس الارهابيين". 3- بذل جهود مضاعفة لادماج دول المنطقة بالعولمة والاقتصاد العالمي، كخطوة لا بد منها قبل نقل هذه الدول الى "المرحلة الديموقراطية". أبرز الداعين الى هذا التوّجه الاخير كان فؤاد زكريا، مدير تحرير دورية "فورين أفيرز" الذي كتب الاسبوع الماضي مقالا في "نيوزويك" أبرز فيه النقاط الرئيسة الاتية: - الخوف من بدائل الانظمة الاستبدادية في المنطقة العربية شل السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، لان واشنطن كانت تعتقد ان هذه الانظمة ربما تكون اكثر ليبرالية من مجتمعاتها، وبالتأكيد من حركات المعارضة الاسلامية فيها. - بيد ان ذلك يجب ان لا يمنع الولاياتالمتحدة من العمل على "تجفيف المستنقعات الارهابية". وهذا يعني نقل المعركة الى رأس النبع الحقيقي: المنطقة العربية وليس أفغانستان، ليس بهدف تطبيق الديموقراطية بل لفرض ممهداتها الضرورية وهي ما اسماه زكريا "الليبرالية الدستورية" المستندة الى حكم القانون، والحقوق الفردية، واحترام الملكية الخاصة، والمحاكم المستقلة، والفصل بين الدين والدولة. - لكن كل ذلك يجب ان يسبقه تحقيق النصر العسكري التام على الاسلام السياسي المتطرف الذي يصفه أدموند بيرك بانه "المبدأ المسلح". الترجمة العملية لمخطط زكريا العام، هو ببساطة استكمال اندماج العالم العربي بالرأسمالية العالمية، ولكن بتحفيز وتدخل قويين هذه المرة من الغرب. فالاقتصاد يجب أن يسبق السياسة. والسياسة الاقتصادية يجب ان تكون لها الاولوية على الايديولوجيا. وسيكون على القوة العسكرية والامنية الغربية ضمان نجاح هذه الاهداف. في بعض الحالات، كما في العراق وربما سورية وليبيا، قد يكون تغيير الانظمة ضروريا لتحقيق هذه النقلة اذا ما عجزت النخب الحاكمة عن التأقلم معها. وفي بعض الدول الاخرى سيتم الاكتفاء بتعديل الانظمة من داخلها. في حين سيتم الحفاظ على الامر الواقع في الدول الاخرى، كالاردن الهاشمي مثلا، التي يعتقد انها مناسبة للمرحلة الجديدة. لكن الشيء المؤكد ان التوجهات الاميركية الجديدة ستفرض وجود نخب سياسية عربية واسلامية جديدة. والبقاء هنا سيكون ل"الاصلح"، بمعنى الاكثر قدرة على التأقلم. هل لهذا التصور الاميركي الانقلابي الطموح فرصة للنجاح؟ عسكريا وأمنيا يبدو الامر كذلك. فالنجاح الكاسح للحملة العسكرية الاميركية في أفغانستان، سيشجع على المضي قدما لنشر "الباكس اميركانا" العسكري في باقي انحاء المنطقة. وبرغم ان محللين وسياسيين اوروبيين يشككون، او يرفضون، نقل الحرب الى العراق، الا أن هذه الحرب تبدو حتمية وربما بأسرع مما يتوقع الكثيرون. إذ ينسى الكثيرون هنا ان العراق كان الاولوية الاولى لادارة جورج بوش الابن حتى قبل احداث 11 ايلول سبتمبر. والان وبعد هذه الاحداث سيكون "استكمال مهمة" جورج بوش الاب التي وقفت العام 1991 على أبواب بغداد، تحصيل حاصل. ومن شرارة العراق الحتمية سيندلع لهيب التغيير الكبير في كل منطقة الشرق الاوسط. لكن مهلا. تحقيق النصر العسكري، لن يعني بالضرورة الفوز بالغنائم السياسية او بجوائز نوبل للسلام. فبين النصر العسكري و "الباكس" الاميركي الجديد، جملة مخاطر لا يمكن القفز فوقها ببساطة. أول هذه المخاطر واهمها احتمال إقدام اسرائيل على الافادة من الحالة اللزجة الجديدة التي تمر بها المنطقة، اما لفرض جدول اعمالها القبلي-العشائري- العائلي بالقوة كما يحدث الان في فلسطين، او لبذل الضغوط النافذة على صانعي القرار في واشنطن لتبني جدول الاعمال هذا. والحال ان تبني الاستراتيجية القبلية، برغم فوائدها الآنية بالنسبة لاسرائيل والولاياتالمتحدة، الا انها ستثبت في النهاية انها عشرة براميل بارود دفعة واحدة، لانها لن تخلق حالة لا استقرار دائمة فحسب، بل أولا وأساسا لانها قد تدشن قيام تحالف كبير بين كل الاطراف العربية الرافضة لعملية التفتيت هذه. وفي طليعة هذه القوى القومية العربية التي سبق للعديد من المفكرين الغربيين التحذير من انبعاثها مجددا اذا ما اساءت اميركا واسرائيل التصرف، وبالطبع القوى الاسلامية الراديكالية. بيد ان المشكلة لن تقف على ابواب الالعاب الاسرائيلية وحدها. فالتوجه نحو تطبيق قواعد العمل الرأسمالي في المنطقة، وبرغم انه سيكون ثورة حقيقية تنقل الشرق الاوسط العربي من المرحلة الاقطاعية وما قبل الرأسمالية الى المرحلة الرأسمالية الحديثة، الا انها تتضمن في الوقت ذاته مخاطر يجب عدم اغفالها. ذلك ان تطبيق النمط الرأسمالي "المتوحش"، من دون الاخذ في الاعتبار تظلمات ومعاناة الفقراء الذين يشكلون الغالبية الكاسحة من ال 300 مليون عربي، سيكون وصفة ممتازة لاعادة ضخ المياه الى مستنقعات الارهاب. لا بل اكثر: أي تخبط اميركي، أولا في التعاطي ب "القطعة" مع العالم العربي، أي بصفته قبائل متشرذمة لا أمة عربية واحدة لها غريزة تاريخية ودور حضاري سحيق، وثانيا في خلق نخب حاكمة مهمتها الاساسية تسهيل استهلاك الاغنياء للسلع الاميركية، وثالثا في فرض تسوية مجحفة بحق الفلسطينيين ارضاء لاسرائيل، كل ذلك سيجعل خيار العمليات الانتحارية جذابا للغاية للعديد من الفئات الاجتماعية العربية. وحينها سيكون أسامة بن لادن قد حقق انتصاره الحقيقي. لا بل ستكون عمليات واشنطن ونيويورك بمثابة العاب اطفال، قياسا بما قد تفرزه منطقة محبطة قوميا، ويائسة اقتصاديا، ومهمشة حضاريا وثقافيا، من ردود فعل عنيفة. الغرب سيقوم حتما بتمديد نصره في الحرب الباردة الى الشرق الاوسط، كما يريد الباحث بول مايكل ويبي. وهذا سيحدث على الارجح في العام 2002 . لكن نهاية الحرب الباردة في المنطقة، قد تطلق حربا أو حروبا ساخنة لا تنتهي، اذا ما قلل الغرب من أهمية التظلمات القومية والاجتماعية لدى العرب