سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الناقد والاكاديمي السعودي يحمل الشعر العربي مسؤولية صناعة الطغاة . عبدالله الغذامي ل "الوسط": نزار قباني شاعر الفحولة وأدونيس حداثي مستنير ورجعي نسقي في آن واحد
مشروع عبدالله الغذامي يرتكز على التمييز بين استقبال الادب بوصفه قيمة جمالية بلاغية، وبين مفهوم آخر يجعل الادب "حادثة ثقافية" مع التسليم التام بجمالياته. والغذامي الذي يعدّ من أبرز النقاد العرب، وأكثرهم سجالية وإثارة للجدل، حصل على شهادة الدكتوراه من بريطانيا العام 1987، وحاز العام 1999 "جائزة سلطان العويس" في الدراسات النقدية، وله العديد من المؤلفات أبرزها: "الكتابة ضد الكتابة"، "الخطيئة والتكفير: من البنيويةالى التشريحية" و"المشاكلة والاختلاف : قراءة في النظرية النقدية العربية"، و"بحث في الشبيه المختلف"، "المرأة واللغة"، وهو أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب التابعة ل "جامعة الملك سعود" في الرياض. "الوسط" التقت الناقد السعودي الذي يؤسس لمشروع "النقد الثقافي" كبديل من "النقد الادبي"، في مناسبة زيارته عمّان قبل أسابيع، بدعوة من "مؤسسة عبد الحميد شومان": إجتهدت في الكشف عن جماليات الشعر العربي وكوامنه الفنية. لكنك قوّضته في نقدك الثقافي، وفكفكت بنياته المعرفية. هل هذا جزء من مشروعك النقدي؟ - نعم هو جزء آخذ في البدء. الجانب الجمالي، حسب مقولة النقد الادبي، انعطف انعطافة جذرية، إذ تحوّل من قراءة النصوص الى قراءة الانساق. وهذا تحول جذري تختلف معه النظرة من حيث المبدأ وتختلف فيه آليات التأويل. وهذا هو الفارق الاساسي بين النظرتين. ما الذي تبغيه من وراء هذا المشروع الذي يقوم في أساسه على الهدم في مستواه المعرفي؟ - الذي ابغيه ويرتكز عليه هذا المشروع هو التمييز بين استقبال الادب بوصفه قيمة جمالية بلاغية، وبين مفهوم آخر يجعل الادب "حادثة ثقافية" مع التسليم التام بجمالياته. غير ان المسكوت عنه هنا، هو المحرك والفاعل الثقافي، فتكون العينة الادبية علامة ثقافية، بعد ان كنا ننظر اليها على انها قيمة جمالية فحسب. تحاول اقتراح مفهوم جديد للأدب والثقافة باعتبار انهما مصطلحان ملتبسان. في حين ان كثيرين يتضامنون ويتواطأون على عدم تعريفهما. هل انت في مشروعك ضد البداهة؟ - نعم، أنا ضد البداهة. وضد المسلمات العامة التي توهم نفسها انها مصطلح معروف وغير شائك، بينما الامر على خلاف ذلك. إن كل عملية فحص لمصطلح الادبية او لمفهوم الثقافة، ستوصلنا الى انها مفاهيم شائكة وتتسع اتساعا يوصلها الى درجة اللامعنى، او تضيق ضيقا اصطلاحيا اكاديميا. وفي الحالتين تكون النظرة قاصرة، وسنحتاج حينئذ الى ان نعيد نظرتنا مرة تلو الاخرى، حول ما نظنه مفهوما ومعروفا، فاذا بنا نكتشف انه شائك ومرتبك. ثقافة الوسائل والوجود المتغير تدعو الى النقد المنشغل بتتبع الصحافة والاعمال السينمائية ووسائط الاتصال الجماهيري، ولكن هل يمكن ان يحل هذا محل النقد الأدبي؟ - ليس المطلوب أن يحلّ محل النقد الادبي، لكنه وظيفيا ومرحليا، يعد بمثابة شاهد على المرحلة الثقافية التي نمر بها، وهي مرحلة تشهد تغيرا ضخما على المستوى العالمي، ونحن جزء من هذا العالم. وفي هذا التغير نكتشف اننا في "ثقافة الوسائل". الوسيلة صارت هي بذاتها الاداة الثقافية، وفي الوقت ذاته فان الوسيلة سريعة التغير والتبدل لأسباب تجارية استهلاكية، لكننا منصاعون بالضرورة، ومتأثرون بالضرورة بهذه الوسائل، وبأنماط تغيراتها السريعة. وهذا يقتضي منا ان نتحول بوعينا النقدي نحو النظر الى هذه المتغيرات، لكي نعرف موقعنا في هذا الوجود المتغير، ولكي نتلمس اساليب وضرورات التعامل مع هذا المتغير. أما اذا بقينا على اسلوبنا التقليدي في النظرة الاكاديمية الثابتة، فهذا معناه ان العالم يتحرك بسرعة، ونحن غافلون عما يجري بدعوى الجمالي الخالد والمتعالي، كما هي دعوة النقد الادبي في الاصل. وهذا ما يتطلب قيام النقد الثقافي كبديل عن النقد الادبي، بوصفه استجابة لشروط المرحلة وشروط هذه التغيرات الجذرية. إنّها دعوة، إذاً، لأن ينهمك المثقف في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي سائر مرافق الحياة، لا ان يبقى اسير نصه الادبي. - نعم. وهي دعوة لأن يلتفت المثقف الذي نسميه عادة ب "الجاد"، لكي يقف على الخطابات ذات الفعل المباشر في الناس، ولا يكتفي، كما كان الحال حتّى الأمس القريب، بالوقوف على النخبوي المتعالي. لقد بدأ الهامشي يتحرك مطالباً بالاحساس به والالتفات إليه، وفي الوقت ذاته تتعرض الهوامش كلها لضغوط معنوية ومادية تتمازج في الخطابات الراهنة، وهذا معترك مهم جدا، وخطر جدا. وعلى المثقف الجاد ان يدخل، بكل ثقله، الى هذا الحدث العصري الذي له من التأثير والفعل ابلغ الحدود. ولنأخذ كمثال قصيدة لأدونيس وأغنية شبابية، ونسأل انفسنا اي واحد من النصين يدخل الى عالم الاستقبال الوسيع، والتأثير الاخطر. وحينئذ لا بد للناقد ان يسأل نفسه: هل هو معني بالاستقبال الجماهيري العام، الفاعل، والمؤثر في الناس، ام انه سيكتفي بالدائرة الثقافية الضيقة مع تساميها؟ لكن السمو الآن يتنازل عن دوره ليحل محله الجماهيري، وهذا يجعلنا مسؤولين عن التعرف على معالم هذه التغيرات، وادوار تأثيراتها، هذا ان كنا معنيين فعلا بالشأن الثقافي الاجتماعي بأبعاده الحقيقية. وهنا تكمن المسؤولية التي تحتاج الى شجاعة وجرأة، وتحتاج الى كسر الحد التقليدي الفاصل، بحيث لا نعود نطالب الناس بالارتقاء الى مستوى النص، طالما انهم غير عابئين بهذا الطلب. وفي هذه الحالة لا بد ان نتجه نحن الى الناس، والى تفاعلاتهم الثقافية، وهذا ليس تنازلا عما يسمى شرف العلم وحصانة العلم، بل انّها محاولة للاتصال مع الواقع، بكل ما في هذا الواقع من سلبيات كثيرة او ايجابيات قليلة. هذا هو السعي الحقيقي لقراءة الخطاب وذهنية الاستقبال وحركية التباعد. إخترت ادونيس للمقارنة بين شعره واغنية شبابية، وهذا ينطوي على التشكيك في شعرية واحد من ابرز الشعراد الروّاد في الادب العربي الحديث. لماذا هذا الهجوم على ادونيس والتقليل من شأن منجزه الشعري؟ - اختيار ادونيس مقصود ومهم، لأن ادونيس يمثل النموذج الارقى للنخبة، هذا من جهة. ومن جهة اخرى يمثّل ادونيس الصوت الاعلى والاقوى في الجهر بالتغيير والتحديث. وهنا يأتي السؤال: هل هذا الصوت الاعلى نخبويا، وتغييريا، فاعل ومؤثر في حركة الاستقبال الجماهيري؟ ام انه مؤثر فقط في نخبة ثقافية هي متطورة اصلا وتقرأ ادونيس لتجد فيه ذاتها المتطورة، بينما الفئات الاخرى التي تحتاج الى مهمات التطوير تظل بعيدة عن هذا كله؟ سنكون حزينين، بكل تأكيد، ان تكون الاغنية الشعبية اكثر تأثيرا من قصيدة عظيمة للمتنبي او ادونيس، وهذا ليس سوى حزن شفاف على غياب تأثير هذه الثقافة. ولو كان بيدنا ان نجعل الناس يتفاعلون بما نسميه نصاً عظيماً ويتأثرون به، لما كان هناك مشكلة. ماذا نفعل اذاً؟ هل سيظل الوعي النقدي منحصرا بمادة ليست محتاجة إليه فعلاً؟ وأدونيس لا يصنعه النقاد، ولا يستفيد هو من اي نقد يتوجه الى نصوصه. كما ان المتفاعلين معه، وهم النخبة، ليسوا في حاجة الى الممارسة النقدية لكي تجعلهم اكثر تفاعلا معه. ولكن الذي ارى انه ميدان مهمل ومنسي، هو حال الاستقبال الجماهيري، ولو دخلنا فيها بصدق وشجاعة لاستطعنا حينئذ ان نكون فاعلين ومؤثرين، ولو بدرجات. اي اننا نطلب إحداث وعي نقدي عند فئات تستقبل وتتفاعل من دون ان تتسلح، او تستهدي، بالوعي النقدي. والمسألة هنا ليست اختيارا، لكنها في عرفي ضرورة ملحة كاستجابة لمتغيرات لم نصنعها، لكننا محاصرون بها. ثمة من يرى أن تحرشك بأدونيس هو بمثابة افتعال لمواجهة مع رمز ثقافي لامع سعيا وراء الشهرة. ما ردك على ذلك؟ - من حق اي امرىء ان يقول ما يشاء، وعلينا ألا نجعل مثل هذه التعليقات تحبطنا او تؤثر على عملنا. لكنني في كتابي "في النقد الثقافي" ركزت على اربعة شعراء كبار هم : ابوتمام، المتنبي، نزارقباني وادونيس. وهذا ليس تركيزا حصرياً، فهناك أمثلة تنطبق على غيرهم ايضا. ومن شرط المثال العلمي ان يكون حادا في وضوحه، وفي انتقائه، لكي يحقق الصدمة المعرفية التي تجعل الفكرة اكثر قابلية للتصور. ولو اتيت بشاعر عادي، لظن القارىء ان وجود النسق المضمر يرجع الى عادية هذا المبدع، وليس لأن الانساق المضمرة تتحرك من تحت الوعي، حتى لتخفى على اقوى الناس ابداعية واكثرهم وعيا بالتحرر. واذا ما كان أدونيس هذا الحداثي الواعي بحداثيته ينطوي على نسق رجعي، من دون وعي به، فمعنى هذا ان في ثقافتنا معضلة "عويصة" لا بد من كشفها بشجاعة وصدق. أحمل شخصياً تقديراً لا حدّ له لأدونيس، لكن التقدير شيء وفعل الكشف الثقافي شيء آخر. وانا لا اشكك ابدا بقوة ادونيس ودوره، وهذا بالضبط ما يساعدني على اتخاذه مثالاً قادراً على كشف المقولة أكثر من غيره. ونص ادونيس، محطة خصبة للتجريب والمساءلة، لانه نص غني ويعطيك الشيء ونقيضه... وهنا وجدنا لديه الوعي ونقيض الوعي، الحداثي المستنير والرجعي النسقي في آن واحد. لذا فهو مثال جيد تتضح معه وظيفة النقد الثقافي، واهمية مقولة الانساق المضمرة الكامنة تحت الانساق الواعية. كيف يمكن ان يوسم ادونيس بالرجعية، هو الذي قدم رؤية ثورية متقدمة في قراءة التراث العربي، قبضت على تجلياته وملامح التنوير فيه؟ - هذه هي المعضلة! اي ان الثقافة العربية مكتنزة في داخلها بالانساق المضمرة. وقد ظللنا غافلين عن هذه الانساق، لاننا نتحرك على مستوى الوعي والتصور العقلي، ثم نفاجأ ان وعينا هذا بكل ثوريته وتمرده وتطلعاته العالية يتحرك محكوما، من دون ادراك لتلك الانساق المضمرة التي لم يشتغل النقد على كشفها. وبما ان النقد لم يتنبه لها، ظلت تتسرب من تحت، وتفسد علينا كل وعينا الابداعي الثوري. وما لم نشتغل على هذه الانساق المضمرة اولا، ثم نفضحها ونعريها، فان اي عمل على مستوى البنية الواعية سيتكسر عند لحظة الاستقبال. إن الاستقبال تحركه الانساق المضمرة، وبالتالي نجد ان خمسين سنة من مشروع الحداثة العربية ينتهي الى "لا حداثة". لماذا؟ - هذا السؤال يعني ان هناك حداثة واعية وتجهر بوعيها، وفي المقابل لا نجد هذه الحداثة في واقعها الاجتماعي والسياسي والثقافي بعامة، ما يعني حينئذ ان الحداثة نفسها مصابة بعيب نسقي غير ملحوظ، وهو ما ادى الى ابطال مفعولها، بل افشالها، وهذا الذي يجعلني اقول بضرورة قراءة الخطاب الحداثي بوصفه نسقا يضمر نسقا اخر، وهذا المضمر هو العلة، وهذا هو التحدي البحثي الذي يجب التصدي له مع ما فيه من غرابة ومفاجأة صادمة، لكن الحقيقة المرّة دائما صادمة ومربكة. مركزية الثقافة الغربية تسيطر عليك هواجس المركزية الغربية. فالثقافة في الغرب، في نظرك، هي المركز، وما عداها اطراف، فكيف يتسق ذلك مع بحثك عن الجوهري والعميق في الثقافة العربية؟ - التحدث عن مركزية الثقافة الغربية ليس تقويما لواقع ثقافي، ولكنه اعتراف مر بواقع حقيقي. كما انه ليس تقليلا للهوامش والاطراف، لكنه تحفيز للاطراف والهوامش لكي ت1درك انها ما تزال هوامش واطرافا، وعليها ان تتخلى عن الغرور القومي والعاطفي الذي يتباهى بعظمة غير موجودة ومجد خدّاع... لأن هذا لا يصنع حضارة، ولا يفضي الى تقدم. ولذا يجب علينا ان نكون واضحين مع انفسنا، وحادين مع ذواتنا حدّ السكين، لكي نغرس اللوعة فينا وفي ثقافتنا، لأن هذه اولى حالات التحرر. والعرب في القديم كانوا يقولون "إذا لم تكن ذئباً اكلتك الذئاب"، والثقافة الغربية ثقافة ذئبية بالمعنى الحقيقي لهذا المصطلح، بينما نحن نراوح في ثقافة الخروف، ولن يفعل الخروف شيئا امام الذئب، الا ان استطاع ان يكون ذئبيا، فيدافع عن نفسه اولا، ويقتحم مخاطر التاريخ ومجاهل المستقبل... لكي يكون فاعلا، ولكي يحقق وجودا لنفسه. إذاً المركزية الغربية حقيقة حتى وان كانت حرة، ومزعجة، لكن التعامل معها لا يكفي فيه الاحساس بالمرارة والركون للانزعاج، وانما يكون بالمواجهة العقلية والفكرية الشجاعة. ونحن لسنا اقل طولا، او اصغر اذهانا من الغربيين، لكننا لا نستعمل عقولنا بالشكل الكافي، ولا نطلق اذهاننا بالحرية الكافية، بدليل ان العقول العربية المهاجرة جارت الغربيين وتفوقت عليهم، لانها اكتشفت ان العقلية الحضارية تتحقق بالعمل والمنافسة والاقتحام. انما نحن في الداخل العربي، فقد ظللنا ندور في دوائر مغلقة، ولم نحاول كسر هذه الدوائر، والخروج الى الافق الضليل. ألا تخشى بذلك من الوقوع في الاستشراق المقلوب؟ - انا تنازلت عن الخوف منذ زمن طويل، والخوف فعل مضاد للحضارة وللثقافة، فالخائف لا يصنع شيئاً، خلافاً للشجاع الذي يطوي الشكوك والاسئلة من ورائه، ويتقدم غير عابىء بالخطأ. وانا لم اعد اخاف من الخطأ لأن المقتحم لا بد ان يخطئ، كما ان المخطئ سيصحح نفسه في مرحلة من المراحل، او يصححه غيره، ومن ذلك تنبني التجارب، كما نعرف ذلك في حقول العلوم التجريبية التي تقودها سلسلة من الاخطاء الى كشف نهائي، يجعل الاخطاء الماضية كلها فضيلة عظمى، لأنها تفضي الى الاكتشاف. ثم ان الثقافة الانسانية موسوعة عريضة مفتوحة لكل قارئ ذكي، وانا لا انظر الى العالم الا على انه موسوعة عظمى لا بد من قراءتها بشجاعة واقتحام غير محدودين. هل أرتكبت أخطاء في الماضي؟ - نعم، هناك أخطاء كثيرة، بعضها في التفصيلات وبعضها في المقولات. وانا عادة لا اعود الى اعمالي القديمة فأصححها في طبعات ثانية منقحة كما يسمونها، بل اسعى إلى توظيف خطأي الماضي بجعله ينير لي طريقا الى تصور اكثر حصانة وواقعية. والامر قبل ذلك وبعده، متروك للقراء والقارئات، ولجيل المستقبل الذي يفترض انه جيل يستقبل المعرفة لا ليحفظها كمسلمات ويعيد تكرارها، إنّما ليجعلها مدماكا يبني عليه وينطلق من فوقه. وفي الوقت ذاته، يتعلم من اخطاء التجربة لكي يقلص اخطاءه هو. هذا هو شأن الثقافة التي تقوم على تشكّل بنيوي تصاعدي، وليس الثقافة التقليدية التي تقوم على العلاقة بين شيخ رائد قاطع الصواب، وتلميذ منصاع قاطع الاذعان. تلك ثقافة لا ترفع البناء، لأنها نقية تعتمد على "الاب الفحل"، ولذا يصعب تجاوز الاول لاننا ظلننا نسميه ابا، وهذا ايضا من عيوب الحداثة العربية لانها وقعت في مأزق صناعة الآباء والرموز القطعية، فحلّ الاب الجديد محل الاب القديم وبجانبه قطيع لا يحصى من الاتباع الذين هم مجرد اتباع. هذه عيوب ثقافية نسقية خطرة، لا بد ان نجهر بنقدها، ونقد انفسنا بسببها، والا سنظل خاضعين لتحكم النسقي فينا. أيديولوجية التفحيل ترى الى قصائد نزار قباني بأنها تمثل "أيديولوجية التفحيل"، مع انه من أرقّ الشعراء مفردة، واعذبهم بيانا. - العلة في نزار ليست في لغته وألفاظه، فلغته والفاظه من اجمل ما نقرأ ومن اجمل ما نحفظ. وانا من اكثر الناس طربا لشعر نزار، واحفظه، وارويه، لذلك فالعلة مشتركة بي وبه. وانا لست سليما من النسقية ولا من التفحيل، لانني انا ونزار نتائج لثقافة نسقية. وهنا اقول ان نسقية نزار هي في الخلاصة الذهنية لمعطى الخطاب الشعري عنده: إذ نجد صورة الفحل الشعري التي لا تختلف عن الفحل السياسي، مثلما نجد صورة الرجل الذكر الذي يرى الانثى متعة وهوى خلابا، ولا يراها كائنا عقلياً. ولا نجد في كل شعر نزار صورة للمرأة-العقل، بل نجد صورة المرأة-الجسد. ما نفع رقة ألفاظه وجمال اسلوبه، ما دامت تعيد الأنساق القديمة بلغة جديدة. والمحزن فعلاً ان اللغة الجديدة لم تخلق نسقا جديداً! وهذا ما اعنيه بالانساق المضمرة التي تختبئ وراء الوعي الحداثي، من دون ادراك من الشاعر نفسه، ولا من قرائه وقارئاته. تباهى نزار مرة، قائلاً: لقد حوّلت المرأة من "جارية" الى وردة. ما الفرق هنا؟ كلتا الصورتين هما ناتج شبقي ذكوري، وليس بأي حال من الاحوال تصورا حداثيا تقريريا جوهريا. وما صار للمرأة بان تتحول الى وردة؟ ستظل مادة للشم والاستمتاع، واذا ذبلت ترمى كما ترمى الوردة الذابلة. اين الكائن العاقل، القائم بذاته ولذاته، ذكرا كان ام انثى؟ هذا ما اقوله عن المادة الثقافية التي نستهلكها جماهيريا، ونستمتع بها ونطرب لها، لكنها، كما ترى، تغرس في وجداننا العميق صورة الفحل، وتعزز النسق، كأننا هنا نتآمر على عقولنا عبر اخضاع وجداننا لهذا النوع من التدجين الثقافي. حمّلت الشعر العربي مسؤولية الاستبداد وصناعة الطغاة، لأنه انتج بنية ذهنية عربية مستعدة للخضوع والاذعان، كيف كان ذلك؟ - الشعر ليس مسؤولاً بهذه الطريقة الميكانيكيّة. والشعر ليس سببا وانما اقول ان الشعر هو "حامل النسق". وأنا أتعامل مع الشعر بوصفه علامة تحمل النسق... إننا نتعرف على الانساق العربية الثقافية المضمرة، عبر الشعر بوصفه حاملا لها وبوصفه علامة دالة عليها. ماذا وجدنا صورة الأب المضمرة وصورة الفحل المغلق المُلغي للآخر وصورة المتكلم المجازي بخطابه المبالغ والكاذب. وهذه في حال الشعر هي صور متينة جمالية، ولكن المشكل يأتي حينما تنغرس هذه السمات متوسلة بجماليتها في وجداننا، وتعيد صياغة نفسها في شؤوننا الأخرى سلوكيا وسياسيا واجتماعيا. ويولد هذا الوجدان، المكتنز بتلك الصفات، الفحل السياسي والاجتماعي والأنا السياسية في الطاغية السياسي، والخطاب الكاذب سياسيا واجتماعيا، حتى لتتشعرن السلوكيات والقيم مثلما تتشعرن الذوات، وتتشعرن رؤيتنا الى انفسنا والى العالم. وهنا لا يكون الشعر سببا، ولكنه حامل نسق يظل يغذي ويديم ويغرس هذه الصور المصنوعة في المطبخ الشعري اصلا، ثم تتحول منه الى الخطابات الاخرى. إذا استمعت الى خطبة زعيم سياسي، ستجد ان الجملة المركزية عنده حول الذات والآخر، وقيمة اللغة عنده في علاقتها ما بين القول والفعل. تجد هنا صورة مكرورة عن الشاعر الفحل، ما حوّلنا الى كائنات مجازية، وحوّل القيم عندنا الى قيم مجازية بدلا من القيم العملية. تقول ان النقد العربي لم يهتم بالأدب الرسمي. ما مدى دقة ذلك اذا ما علمنا ان كتبا تراثية مثل "الأغاني"، اشارت الى قصائد ذات ملامح ثورية، وأرّخت لها ولشعرائها. - في قراءة النسق الثقافي نحن ننظر إلى الأنساق المهمة البارزة... وإن وجدت انساق اخرى ذات طابع انساني، وغير فحولي، وغير رسمي، وهي موجودة فعلاً، الا انها ظلت وتظل في الهامش، ولا تدخل في دور المؤثر الفاعل. وهذه هي مهمة النقد الثقافي في الكشف عن المهمل والمهمش من اجل التنبيه اليه اولا، وتفعيل دوره التنافسي والاعترافي بعد ذلك، من اجل خلق توازن يجعل الخطاب متعددا وقادرا على تنويع تأثيراته. ونحن نعلم اننا لن نلغي خطابا ما مهما كان، ولكن يجب علينا ان نفصل الخطابات المتنوعة، ونخلق روح التعدد والتنوع