روسيا: تخفيض سعر صرف الروبل أمام العملات    ترمب: سأفرض رسوماً جمركية على دول كثيرة    المملكة والقضية الفلسطينية.. موقف راسخ ودعم لا يتزعزع    الإفراج عن 183 أسيرًا فلسطينيًا ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    القتل تعزيراً لمهرب «الأمفيتامين» في تبوك    جامعة الملك عبدالعزيز تُتوج ببطولة كاراتيه الجامعات للطلاب    القبض على شخص بمنطقة المدينة لترويجه 1.3 كيلوغرام من مادة الحشيش المخدر    ترقية م. بخاري في هيئة الإذاعة والتلفزيون    «الداخلية»: ضبط 21 ألف مخالف للأنظمة في مناطق المملكة خلال أسبوع    علاجات السمنة ومضاعفاتها تكلف المملكة سنوياً قرابة 100 مليار ريال    الدكتوراه ل«السهلي»    الجيش السوداني يطوق وسط الخرطوم    سورية: اعتقال المتهم بارتكاب مجزرة كفر شمس    الصين تعلن اكتمال بناء أكثر من 30 ألف مصنع ذكي    المنتدى السعودي للإعلام يستقطب شخصيات عالمية في نسخته الرابعة    ماتياس: لهذا السبب استبعدت «فيرمينيو»    أكثر من 40 ألف مشارك من 100 دولة يجتمعون في ماراثون الرياض 2025    انخفاض درجات الحرارة ورياح نشطة مثيرة للأتربة على عدة مناطق في المملكة    تحويل منزل فيروز «القديم» متحفاً في لبنان    أمريكا: العثور على الطائرة المفقودة في ألاسكا ومقتل جميع ركابها    «فائق وشريفة»: رفع علم المملكة حلم لكل رياضي    «إيلون ماسك» يشارك تغريدة قائد فريق النصر    24 مليون مشاهدة تجسد تأثير كريستيانو رونالدو    ورشة التوعية برؤية واستراتيجية وزارة الموارد البشرية بالمدينة    انطلاق بطولة VEX IQ لصُنّاع المستقبل في تصميم وبرمجة الروبوتات    الهلال يُحافظ على سالم الدوسري    على كأس خادم الحرمين الشريفين سباقات القدرة والتحمل العالمي في العُلا    ترودو يدعو إلى أخذ تهديد ترامب بضم كندا على «محمل الجد»    إيمري يتطلع للتحدي الضخم بإعادة ماركوس راشفورد لمستواه    الوحدة يُعلن عن تعرض أنظمة الشركة المشغلة لمتجر النادي ل «الاختراق»    فعالية "حكاية شتاء" تجمع أكثر من 14,000 زائر في قاعة مكة الكبرى    جامعة أمِّ القُرى تستضيف الاجتماع التَّشاوري الثَّامن لرؤساء الجامعات    إنجاز أكثر من 80% من مشروع الطريق الدائري الأوسط في الطائف    ضبط شخص في جازان لتهريبه (60) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    «تعليم الرياض» يحصد 39 جائزة في «إبداع 2025»    تتويج السعودي آل جميان بلقب فارس المنكوس        فريق الوعي الصحي بجازان يشارك بمبادرة "سمعناكم" لذوي الإعاقة السمعية    أمير القصيم يهنئ تجمع القصيم الصحي بفوزه بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية 2025    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    خطبة المسجد النبوي: من رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار فقد رام محالًا    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    العُلا.. متحف الأرض المفتوح وسِجل الزمن الصخري    ملامح الزمن في ريشة زيدان: رحلة فنية عبر الماضي والحاضر والمستقبل    «حصوة وكرة غولف» في بطنك !    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    كيف كنا وكيف أصبحنا    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    ثبات محمد بن سلمان    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسلمو فرنسا وحرب أفغانستان : "أمة" فرنسية واحدة أم تعايش أمم ؟
نشر في الحياة يوم 12 - 11 - 2001

كانت الجاليات العربية والإسلامية تعيش، قبل أسبوع من الانفجارات الدامية في واشنطن ونيويورك، تحت وطأة حملة إعلامية متصلة برواية "المحطة" للروائي الفرنسي ميشال هولبيك. وكان مسجد باريس، وهو أكبر مؤسسة إسلامية في هذا البلد، قرر ملاحقة الروائي والدار الناشرة أمام القضاء بتهمة القدح والذم. فقد اعتبر مدير المسجد دليل بوبكر، أن هولبيك يشتم المسلمين في روايته بطريقة رخيصة ومنافية للقانون الذي يمنع التعرض للأديان والمعتقدات الروحية بالسباب والشتائم.
وقبل ساعات من انفجارات الولايات المتحدة، كان وفد من الدار الناشرة للمحطة يلتقي بوبكر ويقدم اعتذاراً للمسلمين، ما بدا وكأنه انتصار للجاليات العربية والإسلامية التي باتت تتمتع بثقل ووزن أكبر بكثير من السابق في الحياة السياسية الفرنسية.
غير أن الانفجارات في أميركا قلبت الأمور رأساً على عقب، وصار المسلمون بعد 11 أيلول سبتمبر الماضي في فرنسا محل شبهة، وكفوا عن كونهم ضحية لتهجم رخيص من طرف أديب ودار فرنسية للنشر، وبات عليهم أن يطووا هذه الصفحة وأن يتصدوا للدفاع عن أنفسهم بمواجهة آراء اتهامية وظنون وشبهات، علنية أحياناً ومستورة غالباً.
ويروي الدكتور غالب بن الشيخ الحسين، وهو مثقف معتدل ومندمج في المجتمع الفرنسي، أن مدرساً خاطب في اليوم التالي للانفجارات تلميذته التونسية الأصل بقوله: "... إن الذين قادوا الطائرات الانتحارية هم من العرق الذي تنتمين إليه ولا أدري لماذا ما زلت هنا وماذا تفعلين في هذا الصف". ويؤكد الدكتور غالب أنه تلقى وعداً من أحد مساعدي وزير التربية بمعاقبة المدرس المعني، لكنه لا يعتقد أن العقاب الموعود سينزل به حقاً.
وفي سياق الحال الهستيرية التي انتشرت، ولا تزال، وقع الانفجار الشهير في أحد مصانع الكيماويات في مدينة تولوز، وعلى رغم تأكيد المحققين أن أسباب الانفجار تقنية بنسبة 99 في المئة، فإن الأنظار اتجهت نحو موظف فرنسي مغاربي الأصل في المصنع. وانهمرت التساؤلات الإعلامية حول دوره في الحادث وحول السبب الذي حمله على ارتداء ملابس مزدوجة وحول ماضيه، على رغم كونه متزوجاً من فرنسية وغير متدين، وعلى رغم شهادات المحيطين به وكلها تؤكد اندماجه وابتعاده عن الأوساط الإسلامية وانقطاع صلاته بأصوله المغاربية. ولم تهدأ الحملة التي تناولته إلا بعدما قدم القضاة أدلة قاطعة حول الأسباب التقنية للانفجار وعدم وجود دوافع ارهابية وراءه.
وما زاد في حدة الاجواء الاتهامية التي تطول المسلمين في فرنسا، انتشار روايات سرّبها المحققون على شبكات ارهابية مفترضة تتصل بتنظيم "القاعدة" وأسامة بن لادن، فضلاً عن عشرات، بل مئات، الاتصالات الوهمية بالشرطة الفرنسية وكلها تتحدث عن سيارات مفخخة أو عبوات ناسفة أو أعمال إرهابية منتظرة في الأماكن العامة ومحطات نقل المسافرين والمخازن الكبرى وغيرها. بحيث صار التنقل بالمواصلات العامة يشكل عبئاً نفسياً حقيقياً على ذوي السحنات غير الأوروبية وبصورة خاصة المسلمات المحجبات، أو الشبان السمر الملتحين أو ذوي الملامح العربية والسود.
فاتحة هذه الحملة انطلقت من الولايات المتحدة نفسها، حيث نشر المحققون الأميركيون صورة شاب مغربي الأصل من آل الموسوي متهم بأنه أحد أفراد الكوماندوس الذي فجر الطائرات وبأنه كان من ضمن فريق لم يتمكن من خطف طائرة خامسة كانت مقررة في إطار اسراب طائرات الموت الأميركية، وتدافعت وسائل الإعلام نحو عائلته التي تعيش في فرنسا، فأكد أحد أفرادها تحوله إلى التشدد الديني في لندن ولم ينف عنه التهمة التي نشرتها أوساط التحقيق الأميركية.
وبعد الموسوي، توالى الحديث عن شبكة إرهابية تضم ناشطين في فرنسا من اصول شمال افريقية ويتزعمها جمال بغال الذي اعتقل في تموز يوليو الماضي في الإمارات العربية المتحدة في طريق عودته من باكستان واعترف أمام المحققين الإماراتيين بتزعمه الشبكة التي كانت تخطط للقيام بأعمال إرهابية ضد المصالح الأميركية في فرنسا ومن بينها سفارة الولايات المتحدة في باريس. ومن أفراد الشبكة المفترضين نزار طرابلسي وهو لاعب كرة قدم معروف 31 سنة قبل أن يتحول إلى الإرهاب بحسب مصادر التحقيق الفرنسية، ومن بينهم أيضاً كمال داوودي ونبيل بونور ويوهان بونتي وجان مارك غراندفيزيه، وكلهم موقوفون رهن التحقيق.
وإذا كان من الصعب التعرف على كامل أهداف الشبكة ومدى علاقتها ب"القاعدة" واسامة بن لادن وحقيقة خططها لضرب المصالح الأميركية في فرنسا، قبل الانتهاء من التحقيقات القضائية، فإن مواصلة الحديث عنها وانتشار أخبارها في وسائل الإعلام، يصب الزيت على نار التوتر والهواجس التي يعيش في ظلها المسلمون في فرنسا. وهي حال تدفع ببعض أفراد هذه الجاليات إلى التقوقع وراء الكليشهات العامة والعريضة وأحياناً إلى تبرير ما ينسب إلى ابن لادن من أعمال إرهابية، بالتعجرف الغربي وبالضغط اليومي الذي يتعرض له الأجانب في أوروبا والولايات المتحدة.
واذا كان التشدد والتشدد المضاد محصوراً حتى الآن، بقطاعات محدودة من الفرنسيين والمهاجرين او المسلمين المجنسين، فان المسؤولين في الدولة والناطقين باسم الجاليات العربية والاسلامية يجمعون على تقديرات مشتركة لما حصل وللمواقف المتوجب اتخاذها ضد الارهاب والارهابيين. فعلى الصعيد الرسمي الفرنسي حذّر الرئيس جاك شيراك ورئيس وزرائه الاشتراكي ليونيل جوسبان من الخلط بين الارهاب والمسلمين، ووجها انتقادات لاذعة لتنظيم القاعدة ولحركة طالبان وايدا الحرب في افغانستان واكدا مشاركة فرنسا فيها في مجالات وضمن حدود معينة.
والراجح ان فرنسا لا ترغب في تكرار تجربتها في حرب الخليج الثانية نظراً إلى أن علاقاتها الحساسة بالعالمين العربي والاسلامي من جهة وكي لا تكون بيدقاً في حرب اميركية خالصة لا توفر لفرنسا مكاسب تذكر. ناهيك عن ان باريس تحسب حساباً للجاليات الاسلامية المقيمة في نطاق الاراضي الفرنسية والتي يكتنف تعايشها في المجتمع الفرنسي صعوبات جدية، خصوصاً في ضواحي المدن حيث باتت تنتشر الاسلحة المهربة من اوروبا الشرقية سابقاً ويجري الحديث عن صعوبات امنية متزايدة تصادفها الادارات الرسمية واجهزة الشرطة والامن.
من جهتها عبرت الجاليات الاسلامية عن ادانتها للارهاب بصورة قاطعة ووجه مدير مسجد باريس رسالة تعاطف مع الضحايا الاميركيين للسفارة الاميركية في باريس. واظهر استطلاع للرأي العام في اوساط المسلمين مواقف تبرز للمرة الاولى في صفوفهم وتؤكد اندماجهم التام في البيئة الفرنسية. ويبيّن الاستطلاع ان اكثر من 80 في المئة من الذين سئلوا رأىهم يندد بالارهاب ويؤيد الحرب على الارهابيين. ويؤكد الاستطلاع ان غالبية المستجوبين تفترض ان لا علاقة لما حدث في نيويورك وواشنطن بالاسلام، ما يعني ان التعاطف مع تنظيم "القاعدة" في فرنسا شبه معدوم.
وفي هذا السياق اكد كمال قبطان إمام مسجد ليون الكبير وهو من اكبر مساجد المسلمين في فرنسا انه يقف "ضد الارهاب بكل اشكاله ووجوهه في اميركا وفلسطين والعراق والشيشان". وقال انه التقى مع وفد من المشاىخ الرئيس شيراك أخيراً "وقلنا له ان الاسلام دين السلم وليس دين الارهاب، وان على فرنسا ان تدافع عن مواطنيها من كل الاديان ومن بينها الدين الاسلامي".
وابدى قبطان انزعاجه من وسائل الاعلام الفرنسية التي "تقدم الاسلام كدين يدعو الى الحرب وهذا يسيء الى المسلمين" وعما اذا كان يؤيد الحرب التي تشنها اميركا ضد الارهاب قال "انا مع الحرب ضد الارهاب ولكنني ضد الحرب التي تطال الابرياء.
من جهته اكد الدكتور غالب بن الشيخ الحسين ل"الوسط" ان المسلمين في فرنسا "يشجبون ويدينون الارهاب حتى لو كان المتضرر منه ملحداً. والمسلمون متضررون من الارهاب في مصر والجزائر وفلسطين وفي كل مكان، فالارهاب لا علاقة له بالدين الاسلامي ويتوجب على المسلمين ان يترحموا على ضحاياه بغض النظر عن جنسهم ودينهم".
وطالب بالابتعاد عن الشعارات التبسيطية وبمعاملة ضحايا الارهاب وفق مقاييس واحدة "فنحن لم نسمع احداً يدعو الى الوقوف ثلاث دقائق حداداً على ارواح الضحايا في فلسطين والعراق والهوتو والتوتسي وغيرها. وعندما نسمع الرئيس بوش يتحدث عن الصراع بين قوى الخير وقوى الشر فاننا نشعر بان هذا الحديث خطير جداً ويسمح لكل انواع الخلط والغموض بين الارهاب والاسلام والمسلمين. لكن علينا ان ندعو من جانبنا الى عدم استخدام الدين من اجل غايات سياسية، وان ندعو الى اعطاء المرأة المزيد من الحقوق واعطاء الناس المزيد من حرية الرأي والتعبير والتفكير وان ننشر ذلك داخل العالم الاسلامي، فهذه الحقوق والقيم في صلب ديننا وهي بالتأكيد تساهم في مكافحة الدعوات الارهابية التي اوصلتنا الى هذه المأساة، وهي في الاساس ناتجة جزئياً عن سياسة الغطرسة الاميركية والانحياز الاميركي التام لاسرائيل والضرب بعرض الحائط لمطالب الفلسطينيين والعرب العادلة في الشرق الاوسط".
وعبّر بن الشيخ حسين عن خشيته من تحول الرأي العام الغربي والاوروبي ضد الاسلام والمسلمين اذا ما "واصل الاعلام ورجال السياسة الحديث عن البربرية ضد المتحضرين وعن الحرب ضد قوى التخلف والعصور الوسطى والظلامية". واعتبر ان مثل هذا الحديث "يصبّ الماء في طاحونة الارهابيين الذين يريدون حشرنا جميعاً في صراع حضارات مزعوم".
يتيح ما سبق القول ان مسلمي فرنسا المجنسين والمهاجرين لا يميلون الى الخوض في حرب افغانستان كما خاضوا قبل عشر سنوات في حرب الخليج الثانية عندما ايدت اصوات كثيرة بينهم العراق بمواجهة التحالف الدولي. فهم اليوم يدينون الارهاب من دون ان ينخرطوا في تأييد الحرب التي تشنها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد طالبان وتنظيم القاعدة، ومن دون ان يعبروا عن تعاطفهم مع "الامارة الاسلامية" في كابول. اما شجبهم لسقوط ابرياء افغان في هذه الحرب فلا يتعدى مواقف فئات سياسية من مختلف الاتجاهات في فرنسا.
وعلى رغم ادانتهم الارهاب وتعاطفهم مع الضحايا الأميركيين فإن مسلمي فرنسا رفضوا الانخراط في الحملة الفرنسية ضد المشبوهين بتشكيل شبكات ارهابية في نطاق الأراضي الفرنسية، واعتبر محمد البشاري ممثل فيديرالية المسلمين في فرنسا ان هذه المهمة تقع على عاتق الدولة الفرنسية وأن المسلمين ليس من واجبهم ان يحلوا محل الدولة في التصدي لهذه المشكلة.
وإذا كانت الأزمة الراهنة، قد كشفت بوضوح عن انخراط المسلمين في المجتمع الفرنسي كمجموعة تحتفظ بآراء ومواقف وبملامح هوية كغيرها من المجموعات التي يتركب منها المجتمع الفرنسي، فإن صعوبات التعايش ما زالت قائمة وهي تظهر للعلن خلال الحروب التي تفصل بين أوروبا والعالم العربي والاسلامي، أو في حالات التصادم بين قيم الغرب وقيم المسلمين في بلدانهم الأصلية، الأمر الذي يطرح سؤالا كبيراً حول مستقبل العلاقات بين فرنسا ومسلميها في ضوء افرازات الحرب في افغانستان.
والجواب عن هذا السؤال يلخصه أحمد بابامسكه، ممثل التنظيمات والفيديراليات الافريقية في مكتب "الاستشارة" وهو أعلى هيئة تمثيلية للمسلمين في فرنسا وتضم القسم الأكبر من جمعياتهم. ويؤكد بابامسكه ل"الوسط" ان "تأثير حرب افغانستان على الجاليات العربية والاسلامية أخف بكثير من تأثيرها على بلدان أخرى، وردود الفعل التي ظهرت في صفوفهم لا تقاس بتلك التي ظهرت خلال حرب الخليج الثانية". وينفي وجود "توتر" في صفوف هذه الجاليات معتبراً أن هناك دوراً مزدوجاً تلعبه الدولة وممثلو المسلمين "فالاسلام بريء من تهمة الارهاب في نظر ابنائه وفي نظر الدولة الفرنسية". وبالنسبة للمستقبل يرى بابامسكه ان "تنظيم الاسلام في فرنسا واختيار هيئة تمثيلية منتخبة بالتعاون مع الدولة الفرنسية هو الحل المناسب لتسوية العلاقات بين الطرفين وجعلها مشابهة للعلاقات بين الدولة وممثلي الأديان الأخرى في هذا البلد"، ويرى ان "الاستشارة باتت قادرة على لعب دور يدافع عن مصالح المسلمين في فرنسا للمرة الأولى منذ سنين طويلة. والحرب الراهنة وما نتج عنها تؤكد الحاجة الى الاستشارة كمحاور باسم المسلمين يكون قادراً على رد التهم عنهم من جهة وضبط ردود فعلهم في اطار الأنظمة والقوانين الفرنسية".
والراهن ان هذا التوجه نحو الانخراط التام في المجتمع الفرنسي يستجيب للدعوات المتكررة التي صدرت عن السلطات الفرنسية حول تنظيم الاسلام والمسلمين في فرنسا حوالي 6 ملايين نسمة بوصفهم الدين الثاني في البلاد بعد الكاثوليكية لكنهم الأقل تنظيماً والأكثر عرضة للتدخلات الخارجية والأكثر تأثراً بما يدور في العالمين العربي والاسلامي.
وإذا كانت فرنسا تطمح لأن تكون هيئة "الاستشارة" التي تشكلت برعاية وزارة الداخلية وباشراف الوزير دانيال فايان نفسه، وبمبادرة من الوزير السابق جان بيار شوفينمان، اذا كانت تطمح لأن تكون هذه الهيئة محطة اساسية على طريق انبثاق "اسلام فرنسي" يكون جزءاً من "الأمة الفرنسية" وليس مجرد تجمعات موالية لأمم اخرى، فإن الوصول الى هذا الهدف، لن يكون سهلا للأسباب الآتية:
1- لأن صعوبات الاندماج والتعايش، خصوصاً في ضواحي المدن، ليست ثقافية بحتة، فالتجمعات الاسلامية تعيش اجواء الاستبعاد والبطالة وتتعرض لحملات عنصرية، ويحتاج انخراطها الى ما يشبه مشروع مارشال للضواحي من أجل توفير شروط مناسبة لانخراطها في سوق العمل تمهيداً لانخراطها التام في منظومة القيم والحقوق والواجبات الفرنسية.
2- لأن الادارة الفرنسية ما زالت محكومة بثقافة قومية متشددة تركز على ضرورة تماثل المهاجرين والاجانب مع الثقافة الفرنسية والتخلي عن أصولهم. واذا كانت هذه الثقافة الادارية الموروثة من الفترة الكولونيالية، فعالة في دمج المهاجرين من أصول أوروبية، فانها لم تفلح في ثني المهاجرين المسلمين عن أصولهم وثقافتهم ولم تقبل من جهة ثانية باندماجهم مع الاحتفاظ بملامح هويتهم الأصلية.
3- لأن الدول التي جاء منها المهاجرون الى فرنسا، وخصوصاً شمال افريقيا العربية، لا مصلحة لها في الاندماج التام لمهاجريها في المجتمع الفرنسي، لأن هؤلاء يوفرون لها دخلا مهماً من العملة الصعبة يمكن أن ينحسر في حالة الانقطاع التام عن بلدانهم الأصلية.
4- لأن الحروب والصراعات التي خاضتها فرنسا ضد العرب والمسلمين ما زال بعض آثاره ماثلاً حتى اليوم ولم تطو صفحته تماماً بمبادرات مشتركة من الطرفين، خصوصاً حرب الجزائر.
5- لأن التيار العنصري في فرنسا 15 في المئة من الناخبين لا يريد اندماج العرب والمسلمين لأسباب عرقية ودينية.
خلاصة القول إن حرب افغانستان وتفجيرات نيويورك وواشنطن خلفت آثاراً سلبية في فرنسا لكنها لم تؤثر كثيراً على مسار الاندماج الذي يحكم علاقات المسلمين بهذا البلد. وإذا كان المسلمون والفرنسيون يراهنون على التنظيم الجديد لحوالي ستة ملايين عربي ومسلم في اطار "هيئة الاستشارة" لترسيخ التعايش والتصدي لمشكلاته وصعوباته، فإن التطورات الأخيرة برهنت عن نجاح الطرفين في هذا الرهان حيث تبين ان ولاء المنظمات والجمعيات الاسلامية كان غالباً لجهة الالتزام بالسياسة الرسمية الفرنسية اكثر من أي شيء آخر، بحيث يمكن القول ان الدولة الفرنسية باتت حاضرة بقوة في الأطر التنظيمية لمسلميها، وان تعاطف بعضهم مع ابن لادن، لهذا السبب أو ذاك، ليس قادراً على ترجمة هذه المشاعر في أطر ونقابات وجمعيات موالية ومؤيدة للامارة الاسلامية في افغانستان. ولعل الصعوبات الحقيقية التي تعترض سيرورة الاندماج المذكورة ليست كامنة في الحرب الراهنة وانما في المشاكل المشار اليها أعلاه وهي سابقة على الحرب وستستمر بعدها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.