كان رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان حتى وقت قريب، يفخر أمام الرأي العام الفرنسي بأنه الشخصية السياسية الأولى في فرنسا التي تمكنت من العمل بنجاح على ادارة تعايش مزدوج في الحكم، وكانت لهذا الافتخار مستنداته الأكيدة. فمن جهة تمكن جوسبان من تقليص الأزمات والمشاكل مع رئيس الجمهورية الديغولي جاك شيراك الى أدنى حد ممكن، ومن جهة ثانية استطاع ان يدير تعايشاً يسارياً داخل حكومته التعددية الموزعة على الاشتراكيين والشيوعيين وحركة الخضر وحركة الوطنيين. وكان المقربون من جوسبان يقدمون سياسته الناجحة في الحكم بصيغة مستقبلية ويؤكدون ان رئيس الوزراء الحاكم هو الشخصية الأكثر قابلية لترؤس البلاد ولادارة مكوناتها السياسية في خدمة المصالح الوطنية، ولم يكن الرأي العام بعيداً عن هذا التصور فالاستطلاعات المتتالية كانت تضع جوسبان في مرتبة متقدمة على ما عداه من الشخصيات السياسية المرشحة للرئاسة 2002 بمن فيها الرئيس شيراك. إلا أن حسابات الزعيم الاشتراكي وصورته كمرشح لا يقهر في الرئاسيات المقبلة، تتلقى منذ بعض الوقت ضربات قاسية، أبرزها خلافه العلني مع رئيس الجمهورية حول سياسة فرنسا الخارجية، خصوصاً بعد رجمه بالحجارة في جامعة بيرزيت، وبعد اشارته غير الموفقة مطلع الصيف الماضي حول دور الحكومة في رسم سياسة الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي. وإذا كان الخلاف العلني مع شيراك قد عزز موقف رئاسة الجمهورية، فإنه لم يلحق أذى بالائتلاف اليساري الذي أصيب بضعف كبير لأسباب متصلة بإدارة جوسبان الحكومية أكثر من أي شيء آخر. ويجمع المراقبون في باريس على أن الادارة الجوسبانية للائتلاف اليساري الحاكم أدت حتى الآن الى حرمان الحكومة من أقطابها البارزين الذين كانوا يضعون ديناميتها. فمن جهة خرج من الوزارة دومينيك ستراوس وهو كان وزير المال والاقتصاد الذي عرف كيف يدير اقتصاد البلاد الليبرالي بطريقة "اشتراكية" مستفيداً من أخطاء وتجارب اليساريين الذين سبقوه في هذا المنصب الأمر الذي أدى الى إثارة بريق غير معهود حول صورة جوسبان ذات الملامح التقشفية. ومن جهة ثانية خرج من الحكومة كلود الليغر وزير التربية الصريح والقطب الثاني فيها وهو الذي استطاع بفضل صداقته المديدة مع جوسبان وبفضل صراحته وابتعاده عن الحديث بلغة "الخشب" ان يضفي على الحكومة روح التجديد والاخلاص ما أدى الى زيادة شعبية رئيسها. ومن جهة ثالثة غادر مقاعد الحكم وزير الداخلية جان بيار شوفينمان القطب الجمهوري الذي استطاع للمرة الأولى في حكومة يسارية، أن يضبط الملف الأمني ويوحي للفرنسيين بالاطمئنان الى أمنهم. علماً أن هذا الملف كان على الدوام، نقطة الضعف في الحكومات اليسارية وحيزاً لافتخار الحكومات اليمينية. ولعل خسارة جوسبان لهذا "القطب" لا تقتصر على الجانب الأمني وحده. فالوزير المستقيل يمثل ركناً من أركان الائتلاف اليساري الرباعي الحاكم، وبغيابه بات الائتلاف أقل تعددية من ذي قبل. ناهيك عن تجريده الحكومة من الغطاء الفكري الجمهوري الذي كان أيضاً من الموضوعات العزيزة على التيارات اليمينية وحدها. وأخيراً من المنتظر أن يخسر جوسبان خلال الأسابيع المقبلة السيدة مارتين أوبري التي توصف بالقطب الاجتماعي في الحكومة. فضلاً عن كونها ابنة جاك ديلور المفوض الأوروبي السابق ذي الشهرة العالمية وأحد أبرز مؤيدي الحكومة الحالية. والراجح أن خسارة جوسبان لأقطاب حكومته الناجحة تصبح خسارة مضاعفة إذا ما علمنا أن الوافدين الجدد اليها ينقسمون الى قسمين، فهم من جهة لا يضيفون الى الوزير الأول رصيداً على رصيده بسبب حداثة تجربتهم أو لكونهم من الموالين له بلا شروط شأن وزير الداخلية الجديد دانييل فايان، أو لكونهم من الأقطاب المنافسين الذين يهتمون بمصيرهم السياسي الخاص أكثر من مصير الحكومة ورئيسها، شأن وزير التربية جاك لانغ المرشح للرئاسيات ولوران فابيوس رئيس الجمعية الوطنية السابق الذي باشر بتخفيض الضرائب على رغم تحفظات رئيس الحكومة ناهيك عن أنه هو أيضاً من المرشحين المحتملين للرئاسيات إذا ما تغيرت المعطيات التي تحيط بالحكومة ورئيسها. وفي السياق نفسه يشار الى الأصوات الاشتراكية التي تعلو أكثر فأكثر ضد رئيس الحكومة، خصوصاً في ملف "كورسيكا" والملف الاقتصادي، ومن بينها هنري ايمانيولي رئيس الحزب الاشتراكي السابق وميشال شاراس وزير المالية السابق الذي يعد من أشد المخلصين للرئيس الراحل فرانسوا ميتران الذي يحرص جوسبان على التنصل بذكاء من إرثه في الحكم. ويعتقد محللون فرنسيون ان المتاعب التي يتعرض لها جوسبان في الائتلاف اليساري تشمل أيضاً الخضر والشيوعيين الذين يضغطون على حكومته بصورة دورية ويحرمونه من هامش كبير للمناورة، لكن هذه المتاعب على أهميتها، ليست كافية لالحاق ضربة قاصمة بالائتلاف الحاكم ويرى هؤلاء أن الخطر الداهم قد يأتي من الرمال المتحركة الكورسيكية، فرئيس الحكومة لم يعد قادراً على التراجع في هذا الملف الصعب. وبالتالي صار ملزماً بإيصاله الى خاتمة ناجحة دون أن تكون لديه ضمانات كافية لذلك خصوصاً بعد استقالة وزير داخليته القوي. خلاصة القول إن حكومة جوسبان الائتلافية الناجحة والتي استفادت من ظروف محلية وخارجية مثالية لم تتوفر لأية حكومة فرنسية من قبل، تستعد لاستقبال شتاء قارس بعدما خسرت أقطابها ودخلها أقطاب جدد ليسوا معروفين باخلاصهم الشديد لرئيسها ويشدد شيوعيوها وخضرها الضغوط عليها. ويعود اليها شبح الأمن، والمشكلة الكورسيكية المزمنة فضلا عن اضرابات الشتاء المعلنة والمؤشرات الأولى لعودة البطالة في شهر تموز يوليو الماضي، الأمر الذي يمهد لصعود يميني طال انتظاره ويحرر رئيس الجمهورية من ضغوط حكومة ضربت كل الأرقام القياسية في النجاح ويطلق يده في رسم السياسة التي يريدها في رئاسة الاتحاد الأوروبي. وفي الختام تزداد حظوظه في التقدم على رئيس حكومته المنهك في الرئاسيات المقبلة. ولعل السؤال الذي يطرحه المراقبون اليوم لا يتصل ببداية العد العكسي لتراجع اليسار وانما بالمدى الذي يبلغه هذا التراجع؟