وزير البلديات والإسكان يكرم الأندلس العقارية    وزير الدولة للشؤون الخارجية يستقبل سفراء دول الاتحاد الأوروبي لدى المملكة    أمطار غزيرة مصحوبة بعواصف رعدية على مكة    تحت رعاية خادم الحرمين.. انطلاق الملتقى الدولي للمسؤولية الاجتماعية 2024    الأمين العام لمجلس التعاون: لجنة وزراء العدل أسهمت في تعزيز وتقريب القوانين والأنظمة    الهلال الأحمر بنجران تعلن عن إحصائياتها للربع الثالث من العام الحالي    مجلس الشورى يطالب "الإحصاء" التوسع في الربط التقني اللازم لجمع بيانات الأسعار    إحباط محاولة تهريب أكثر من 2.4 مليون حبة «كبتاجون» في ميناء جدة الإسلامي    «البيئة»: 8 مناطق تسجل هطول الأمطار في 36 محطة والباحة تتصدر ب 17.3 ملم    وزارة الصحة تعتبر التوعية بشأنه أمرًا ضروريًا للحد من انتشاره وآثاره    الرياض تستضيف أول اجتماعات التحالف الدولي لحل الدولتين    أمير الشرقية يستقبل سفير الجمهورية القيرغيزية لدى المملكة    محمد نور: لا أعرف ما الذي يرونه في رينارد    القيادة تهنئ رئيس جمهورية التشيك بذكرى اليوم الوطني لبلاده    شركة القحطاني للمزادات تعلن عن مزادها القادم للشركة السعودية للكهرباء    انطلاق فعاليات معرض ⁧‫إبداع تعليم الطائف 2025‬⁩ للطلاب والطالبات    مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُعلن أسماء الفائزين بجائزته في دورتها الثالثة    الأردن تدين تصريحات متطرفة لوزير إسرائيلي تدعو لضم الأرض الفلسطينية المحتلة وتوسيع الاستيطان    لأول مرة في الشرق الأوسط..التخصصي ينجح في استئصال بؤرة صرعية عنيدة باستخدام الترددات الراديوية الحرارية    بيبان 24 .. باب الامتياز التجاري يعزز دعم القطاع ب 70 علامة مشاركة    وصول الطائرة الإغاثية ال15 لمساعدة اللبنانيين    "وفاة واحدة "من كل 6 وفيات بين النساء سببها "سرطان الثدي"    افتتاح جزيرة سندالة للسياحة الفاخرة على البحر الأحمر    "الأرصاد"هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    تراجع اسعار الذهب إلى 2732.90 دولار للأوقية    إزالة مبانٍ لصالح جسر الأمير ماجد مع «صاري»    الأنظار تتجه لباريس في حفل جوائز الكرة الذهبية.. فينيسيوس يحسمها.. وغوارديولا ينافس أنشيلوتي كأفضل مدرب    في دور ال 16 من كأس خادم الحرمين الشريفين.. الاتحاد يواجه الجندل.. وديربي بين الرياض والشباب    الإعلام الرياضي والمجتمع    «ميتا» تكافح الاحتيال بميزة بصمة الوجه    قدمت 51 مليون دولار.. وتقدير بالغ لدورها الإنساني.. المملكة تحشد جهود المانحين للاجئي "الساحل وبحيرة تشاد"    تجسّد العمق التاريخي للمملكة.. اعتماد 500 موقع في سجل التراث العمراني    عبدالرحمن المريخي.. رائد مسرح الطفل في السعودية والخليج    السرطان يصيب هارفي واينستين داخل السجن    كبسولة النمو المالي    شتّان بين الضغائن والخصومات    8 أمور إذا شعرت بها.. غيِّر أصدقاءك فوراً !    مذكرة تفاهم بين محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    "الإحصاء" تنشر مؤشر الرقم القياسي لأسعار العقارات    5 أطعمة غنية بالدهون الصحية    أمير الرياض يستقبل السفير الياباني.. ويعزي الدغيثر    وكيل الأزهر يشيد بجهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    قيمة استثنائية    «خير المملكة» يتواصل في اليمن وسورية    "اتحاد القدم" يختتم دورة الرخصة التدريبية الآسيوية "A"    إنقاذ حياة فتاة بتدخل جراحي    مستشفى الأسياح يدشن مبادرة "نهتم بصحة أسنانك"    «موسم الرياض» يطرح تذاكر منطقة «وندر جاردن»    انتخاب ناصر الدوسري رئيساً للجنة العمالية بسابك    71%من الصادرات منتجات معدنية    «بلان» أمامك أسبوع امتحان    أنا والعذاب وهواك في تكريم عبدالوهاب..!    إسرائيل.. ولعنة لبنان!    إطلاق 15 ظبياً في واحة بريدة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    جلوي بن عبدالعزيز يواسي آل سليم وآل بحري    ختام الدورة العلمية التأصيلية للدعاة والأئمة في المالديف    سموه عقد اجتماعًا مع رؤساء كبرى الشركات الصناعية.. وزير الدفاع ونظيره الإيطالي يبحثان تطوير التعاون الدفاعي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا تحاول يوم الجمعة أن تدق باب عيادته الأنيقة في شارع ريجنت طبيب أسنان بريطاني مرضاه قرود ودببة وأفيال ونمور
نشر في الحياة يوم 24 - 04 - 2000

هل سمعتم عن طبيب أسنان تخصص في معالجة أسنان الحيوانات وأفواهها؟ لا بالتأكيد. لأن هذه المهنة فريدة في العالم، ولا يقوم بها على حد علمنا سوى شخص واحد هو الدكتور اللندني كرتس، الذي يمضي أيام الاسبوع معتنياً بأسنان أخوته من بني البشر، فإذا ما حل يوم الجمعة من كل أسبوع راح يطوف مشارق الأرض ومغاربها لتخفيف أوجاع الكائنات الأخرى: الحيوانات لا سيما الضارية منها.
الباب الاخضر البراق المفضي من شارع ريجنت الانيق وسط لندن، الى داخل مبنى لا يقل عنه اناقة، يودي الى بئر سلم ملتف جدرانها بلوحات تمثل حيوانات بريطانية برية. عبر هذا الباب يأتي المرضى عادة لزيارة طبيب اسنانهم الدكتور بيتر كرتس. وهم حين يدخلون ينتظرون في غرفة منعشة ملئت بالدمى والالعاب الموضوعة برسم صغار الزائرين. بين هؤلاء الزائرين الفتى جيمس، ذو الثانية عشر من عمره. انه على وشك التوجه الى فلوريدا في إجازة، والمطلوب من الطبيب ان ينزع من فمه الجسر الموضوع لتقويم أسنانه. يقول له الطبيب "جيمس اننا سوف نذهب بهذا الجسر بعيداً عن فمك. حسناً، هل الامور على ما يرام؟". هذا السؤال يطرحه الدكتور بلطفه المعهود في أيام الاسبوع. ولكن في أيام الجمعة لا يمكنه هذا، لأن العيادة تقفل في ذلك اليوم. خلال الاسبوع حين يكون الزائرون منتظرين في تلك الغرفة، يمكنهم ان يتفحصوا ألبوم صور وضع له عنوان هو "أيام الجمعة". وهذا الألبوم، كما يكتشف الزائرون يؤرخ للرحلات الاسبوعية التي ما برح الدكتور يقوم بها ايام الجمعة منذ اكثر من عشرين عاماً. وما يكتشفونه يعطيهم فكرة عما يفعله الدكتور ومساعدته الممرضة جوليا حين يكون الباب الاخضر البراق مغلقاً.
ففي الصور يمكن للناظر ان يرى رأس الدكتور وقد وضع داخل فم قرد، او أسد، او نمر او دب او فيل. فالحقيقة ان الدكتور يقوم أيام الجمعة بأعمال مشابهة لما يقوم به أيام الاسبوع، ولكن عبر تجوال لا ينتهي وعبر استخدام معدات من نوع خاص. ذلك ان طبيب الاسنان هذا لا يقتصر اهتمامه على أسنان البشر بل يوسّعه ليشمل أنواعاً ومخلوقات أخرى، أهمها الحيوانات الضارية.
وعلى هذا يرينا الألبوم كيف يدخل الطبيب نظراته ويديه داخل أفواه الحيوانات الثديية كلها، وكيف انه طوال العقدين الماضيين قد ساهم بشكل جدي في التخفيف من اوجاع اعضاء لا تنسى في مملكة الحيوان. ويرى الدكتور انه يعالج نحو مائة حيوان في العام، في مؤسسات تنتشر في شتى انحاء العالم.
ذلك ان الحيوانات، مثل بني البشر، تعاني من مشاكل في أسنانها، ومن التهابات متنوعة قد يتسبب بها مدرب دببة في سيرك، او محاولة حيوان استخدام فكه لأكل قطعة من الحديد، او حتى التقدم في السن. وهنا نقرأ في صفحات الألبوم:
"بوستا" شمبانزي في السابعة عشر من عمرها، تم احضارها من شاطئ في اسبانيا، عن طريق فوسته خاصة، الى المركز الانكليزي المتخصص في انقاذ القردة. وهناك كان الدكتور كرتس في انتظارها.
بعد ان تم تثبيت الشمبانزي بدأت عملية التخدير العام والتشخيص "كان وضعها صعباً" يقول الدكتور كرتس الذي كان قد قام عند الصباح بالسفر ثلاث ساعات للوصول اليها، على متن شاحنة مليئة بالأدوات الخاصة، ويضيف: "كانت خمسة من أسنان بوستا قد تحطمت، واحدها عند مستوى جذره. اما نحن فإننا سعينا لكي نقوم بالعلاج عبر عملية شديدة الهدوء واللطف. ان اهم ما في الامر هو الاستجابة الى احتياجات الحيوان. وعادة لا يكون هناك تصوير بالاشعة، بل نكتفي بالحكم التقديري لمعرفة ما الخطب. ان الحيوان، عادة، يكسر اسنانه باكراً وبالنسبة اليّ، أحاول في المقام الاول ان ادنو قدر الامكان من منطقة الحنجرة وأسفل الأنف، انما من دون ان ألحق ضرراً بها".
في ذلك الوقت يكون الدكتور جون لويس التابع لمجموعة الطب البيطري العالمية، والمعتبر واحداً من أكثر الاطباء البيطريين في عالم الحيوانات الضارية خبرة، يكون منكباً على متابعة مؤشرات الشمبانزي بوستا، يأخذ قياس نبضها، ويتأكد من ان التخدير غير ضار بها ويتنفسها. فالبيطري وطبيب الاسنان يعملان هنا سويا. وخلال العمل يتبادلان الرأي على الدوام ولا يتوقفان عن رصد احوال "مريضهما".
وحين يقرر بيتر كرتس اخيراً، ان عليه ان يملأ تجويف السن بدلاً من انتزاعها ينقل رأيه الى زميله ويخبره كم من الوقت يستغرق ذلك متسائلاً: "هل يلائمك هذا؟" في بعض الاحيان يرد البيطري بالايجاب، وفي احيان اخرى يقول ان ذلك لا يلائمه. في النهاية ينتهي الامر ويفيق الحيوان. وغالباً ما يشعر براحة فورية، ويتبدل مزاجه. حول هذا الامر يقول جيم كرونين، مؤسس منظمة "عالم القردة" ورئيسها، ان "التبدل الذي حصل لدى بوستا كان كبيراً، اذ انه ما ان مضت شهور قليلة على تلك العملية، حتى صار مرحاً ينشر الحبور من حوله، وينزع الى اللعب مع صغار القردة. قبل ذلك كان يبدو بائساً و"خطيراً". في ذلك الحين لم ندرك سر ذلك، على الرغم مما بدا لنا من تضرر فكه وأسنانه. لم نفهم ان هذا يمكن ان يسبب له كل الحزن البادي عليه. اننا عادة ما نحاول رسم الاوضاع القياسية انطلاقاً من رصدنا لحال الحيوانات التي تعتني بها. وحين يصل الامر الى حدود ادراك ان المشكلة مشكلة أسنان نقوم باستدعاء الدكتور كرتس". وهذا الاخير يضيف "ان الحيوانات مثل البشر تعاني من الآلام وتشعر بها، لكن البشر لا يدركون هذا".
"حظي كبير
ولد الدكتور بيتر كرتس، قبل نحو 55 سنة في بودابست. وهو وصل الى بريطانيا في العام 1957، حيث تعلم الانكليزية بسرعة. وهو اليوم يتذكر سنوات دراسته طب الاسنان في الكلية الملكية في لندن خلال سنوات الستين: "لقد كان من حظي ان التدريب يتضمن على دراسة التشريح المقارن. وهكذا تمكنا طوال عام بكامله من ان ندرس تشريح شتى الثدييات، ودرسنا أفواه العديد من الحيوانات. ولكن ليس بطريقة عملية بل نظرية. في ذلك الحين لم افكر ابداً ان في امكاني ذات يوم ان أستفيد من ذلك".
لكنه لم يستفد فقط، بل اصبح واحداً من اكبر خبراء العالم في طب أسنان الحيوانات، كما نشر في العام 1992، الكتاب الاساسي الاول في هذا المجال وعنوانه "الاطلس الملون لجراحة أسنان وأفواه الحيوانات".
فعند الحيوان كما عند الانسان، عندما تبدأ سنّ بالفساد تسبب أوجاعاً لا تطاق. ويمكن للالتهاب ان ينتشر في اللثة والفك، والوجه وربما في انحاء الجسم كله. ويمكن للأسنان ان تموت في الوقت الذي تبقى فيه أعصابها حية ما يضاعف من حجم الألم.
بعد ست ساعات، دون استراحة، يقضيها كرتس معالجاً الشمبانزي "بوستا"، يجلس ليلتقط انفاسه على رقعة خضراء خارج غرفة العلميات، حيث تبقى درجة الحرارة مرتفعة، لإبقاء الحيوان دافئاً. ويقول كرتس: "انني أحب الحيوانات. وأحب خاصة الحيوانات البرية كما أحب الحيوانات الأليفة، وكما أحب البشر. كلنا حيوانات ألسنا كذلك؟ إنني أشعر أن في امكاننا ان ننفع الحيوانات بما لدينا من معرفة وخبرة. بل أيضاً بما لدينا من قدرة على اتخاذ القرار".
في تلك الفترة كان هناك الفيلم "آديغا" و"هارلي" الدلفين، و"مارتن" النمر السومطري، اضافة الى دببة كانت تمتهن الرقص وثعلب، كلهم كانوا - كالفتى المسمى جيمس - في حاجة الى من يعتني بأسنانهم ويخفف آلامهم. "في البراري تعاني الحيوانات من أسنانها، يقول كرتس، ولكنها لا تتلقى أي علاج. ويمكن هناك لالتهاب ان يقتل الحيوان اذ يمكن للبكتيريا ان تتسلل الى داخل شرايينه. ويمكن لمشكلة أسنان ان تمنع الحيوان من ان يصطاد طعامه بنجاح، ما يجعله عاجزاً عن تغذية نفسه بنفسه". ان السن، يقول كرتس، هي باب الحياة والموت في البرية.
هذا اليوم الجمعة كان في الحقيقة ثلاثة أيام.
انتقلنا الى جبال اليونان قرب حدود ألبانيا. هنا كان قد تم نقل بعض الدببة الراقصة الى مكان منغلق ومخفور في غابة. ولكن قبل القيام بذلك راحت جمعية "آركتوروس" التي تتولى ادارة المنغلق، تتأكد من ان الحيوانات قد شفيت من الآلام التي كانت أسنانها تسببها لها.
ومن المعروف ان مدربي الدببة يكسرون لها أسنانها، ما ينتج في المستقبل موت الدب، او انهيار طاقم أسنانه كله. وواحد من هذه الدببة كان عليه ان يتلقى علاجاً خاصاً في ذلك اليوم، لذلك اجتمعنا من حوله بعد ان طُلب منا ان نحيط بالمكان تاركين مخرجاً واحداً حراً، في حال ما اذا افاق الدب من تخديره قبل الاوان وانتفض غاضباً.
هنا قام خمسة رجال، من بينهم الدكتور كرتس، بحمل الدب الصغير جورج، الذي لا يزيد وزنه عن 150 كلغ، ووضعوه فوق طاولة. وفي زاوية المكان كان هناك مولد كهربائي جيء به من سالونيكا لكي يشغل الآلات الخاصة التي يستخدمها الدكتور كرتس.
بعد تفحص فم المريض، اكتشف كرتس ان أنيابه كلها قد حطمت منذ كان في سن مبكرة، وأن اللثة تحتها اضحت لحماً ميتاً، لذا يتطلب الامر خلع الانياب وتنظيف اللثة. وبالفعل تم ذلك فيما كان كرتس يردد: "ان كل حالة تعتبر حالة خاصة".
كانت تلك ثالث زيارة يقوم بها كرتس الى ذلك المركز خلال الاعوام الاربعة الاخيرة. هنا كان اعتنى بأفواه سبع دببة، كان كل واحد منها يعاني وحيداً وسط خضرة الجبال. ويقول كرتس: "ان مثل هذه الاسنان لا يمكن انتزاعها او العناية بها بالطرق العادية. ان لها خصوصة يجعل للعناية بها خصوصية ايضاً. احياناً يتعين علي ان انتزع عظمة اللثة نفسها، لأن السن الفاسدة تكون ملتصقة بها تماماً".
ولدى الدكتور جهاز خاص لانتزاع العظام، يشكل جزءاً من معدات يبلغ وزنها 200 كلغ ينقلها الدكتور معه في الطائرة من لندن الى سالونيكا، ثم بالبر طوال الكيلومترات الثلاثمائة التي تفصل بين سالونيكا ومكان اجراء العمليات. "ان السر رقم واحد في النجاح هو حسن التخطيط. هذا التخطيط الذي يمكنني من الوصول الى حيثما يتعين علي ان احل سواء أكان يبعد أميالا او ثلاثة آلاف كيلومتر عن لندن. التخطيط والاعداد - اضافة الى هذا هناك سرعة اتخاذ القرار. على الرغم من ان عملنا عمل جماعي. ليس عملاً فردياً. قد تكون يداي، في نهاية الامر، الوحيد داخل فم الحيوان، لكنهما لا تصلان هناك الا بفضل عمل جماعي أقوم به مع الممرضة والطبيب البيطري والمسؤولين الآخرين. لولا هذا لأخفقنا في مهمتنا...".
ويشرح لنا الدكتور كرتس كيف ان ليس ثمة اي فارق بين النمر والدب، مثلاً، اللهم الا في كون فك الدب اكثر تأصلاً في عظام فمه: "ان بإمكانك ان تكون اكثر حرية في تعاملك مع الدب، منك في التعامل مع النمر، لأن عظام فم هذا الاخير تكون اكثر دقة...".
في تلك الاثناء يكون الدكتور كرتس قد خلّص ثلاثة دبب اخرى من آلامها. وبعد ثلاثة ايام امضاها في الجبال، يرى ان الوقت قد حان لتنطبق المعدات وجمعها والعودة الى لندن...
يوم جمعة آخر. المطر الغزير يتحول الى عاصفة مطرية في محطة رانكورت خارج مدينة ليفربول، على الرغم ان الصيف بلغ منتصفه. على رصيف المحطة ثمة رجلان وامرأة يجران صناديق يبلغ مجموع وزنها 200 كلغ، وذلك اثر خروجهم من قطار الساعة التاسعة والنصف الآتي من لندن. انهم الدكتور كرتس ومساعدته الممرضة جوليا كي، ومصمم الادوات نايجل فريلاند. انهم متجهون لمعالجة الفيلة الافريقية "آديغا" 27 سنة من آلام أسنانها. آلام ربما كان سببها انكسار ضرس لها قبل عقدين من الزمن حين وصلت الى "نوزلي سلفاري بارك" آتية من أوغندا. هذا "البارك" كان اول بارك من نوع سافاري أقيم في أوروبا ونال جوائز تقديرية عديدة بفضل رعايته الاستثنائية لمجموعة قليلة جيء بها من أفريقيا. هنا في "البارك" تعتبر راحة الحيوانات من أوائل الاولويات.
"آديغا" التي كانت اعتادت ان تبدو هادئة، صارت فجأة شرسة، وفكر المسؤولون بسرعة ان شراستها يمكن ان تكون ناتجة عن ألم له علاقة بضرسها المحطمة.
في ذلك اليوم كان الدكتور كرتس قد قرر تجربة أسلوب جديد صممه بنفسه: أسلوب يسفر عن بطح الحيوان على جانبه الأيمن لكي يمكن اجراء العملية له. ذلك ان الدكتور كان يريد للفيلة ان تنبطح على جانبها الايمن والا لاضطر الى العمل وهو منبطح على ظهره. في الماضي كان فعل هذا، لكنه على غير استعداد لفعله مرة اخرى.
يخبرنا كرتس انه استيقظ هو وجوليا ونايجل منذ الرابعة والنصف صباحاً. وبعد ساعة من ذلك كانوا ثلاثتهم راكضين على ركبهم، في بيت الفيلة، فيما كانت الامطار لا تكف عن الهطول في الخارج. في تلك الاوقات العصيبة كان كرتس يعمل بسرعة للاستفادة من زمن تخدير المريضة، محاولاً استخدام كمية كبيرة من الادوات، فيما كان هناك خمسة رجال لفتح فم الفيلة وابقائه مفتوحاً. وكان هناك اربعة آخرون لمراقبة أحوال المريضة وأحوال تخديرها.
في الخارج كانت الفيلة الاخرى تتفرج، وترصد نحو عشرين كائناً بشرياً يتلاعبون بأدوات يستخدمونها في معالجة حيوان لا يقل وزنه عن ثلاثة أطنان ونصف الطن: ومن بين الآلات كانت هناك مطارق ورافعات وما شابه، اضافة الى قطع من الخشب تستخدم لإبقاء فم الحيوان مفتوحاً حتى اقصاه. ولم تكن الفيلة المعالجة صغيرة السن. وتقول السجلات ان تلك كانت ثالث مرة تعالج فيها على تلك الشاكلة.
وبعد ساعات ينتهي العمل الشاق وتفيق الفيلة من تخديرها مرحة نشيطة. وينظر كرتس الى ساعته ويقول: "الآن علينا ان نلحق بالقطار". وهو كلام تثني عليه جوليا التي تضيف مبتسمة: "أنا أبداً لم يخطر في بالي انني سأقوم بهذا العمل ذات يوم. كل ما في الامر انني كنت أبحث عن وظيفة جديدة، فعثرت على اعلان مبوب يتحدث عن ممرضة لطب الاسنان، يمكنها ان تشتغل على الحيوانات أيام الجمعة. اليوم أشعر انني سعيدة جداً لحصولي على هذا العمل. ولا أعتقد ان هناك ممرضة طب أسنان غيري في العالم تقوم بما يشبهه". تقول جوليا هذا وهي لا تحاول ان تخفي حماسها، بلهجتها الاسكوتلندية المميزة...
في يوم جمعة آخر، بعد ذلك على الفور يكون الدور دور أسد البحر هارلي، الذي لا يزيد وزنه عن 46 كلغ. انه الآن طفل، حين يكبر سيصل وزنه الى نحو 350 كلغ. أخيراً لاحظ المسؤولون عنه ان فكه تتآكل، وتبين ان أسنانه كلها قد نخرها السوس حتى مستوى اللثة. وكان السبب ان هارلي، لحماقته، اعتاد عض الصخور ما جعل أسنانه تنزاح عن مكانها. وكان ان استدعي كرتس للعناية به. واستغرق الامر ساعتين بدا واضحاً ان هارلي قد ارتاح بعدهما. وكرتس استراح نصف ساعة تناول خلالها بعض الطعام، ثم انصرف الى العناية بمارتن، النمر السومطري الصغير الذي لا تزيد سنّه عن الثانية عشر. مارتن خدّر بالطبع قبل ان يفتح كرتس فمه ويكتشف ان أسنانه كلها ملتهبة. واعتنى به منتزعاً له أنيابه. وهذه العملية استغرقت 45 دقيقة... وبعدها تابع كرتس مسيرته.
اذ طالما ان هناك أيام جمعة، وطالما أن هناك حيوانات لا تعتني بأسنانها كل صباح، كما يفعل الأطفال، سيظل كرتس ومساعدته يتنقلان للتخفيف من آلام هذه الكائنات. وسيظلان يجدان في ذلك لذة ما بعدها لذة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.